الشريف نت
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

الشريف نتدخول
الان يمكنك متابعة حالة السوق واضافة منتجك او خدمات شركتك من خلال السوق المصري

تفسير سورة الأنعام

power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد

27072013
تفسير سورة الأنعام

تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
1

ولما كان ختام السورة السابقة أنّ (لله مُلك السموات والأرض) إبتدئت هذه السورة بمثل ذلك الختام ((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) واللام في الحمد للجنس، أي إنّ جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه، والسماوات غالباً تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعاراً بأكثرية السماوات على الأرض، وإلا فالأرضون أيضاً سبعة كما قال سبحانه (ومن الأرض مثلهنّ)((وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ))، أي كونهما والظلمة إن كانت عدم مُلكه فمكون الملكة مكوّن العدم لأنّ إعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا وقد أتى بالظلمات جمعاً بخلاف النور للتناسب مع الجملة السابقة (السماوات والأرض)، ولعلّ سر الإتيان بصيغة الجمع إنقسام الظلمات حوالي النور فإنّ النور يشقّ طريق الظلمة فتتكوّن بسببه قطعاً، أو باعتبار الكيفية فإنّ الظلمة كلما قربت إلى النور كانت أرق، ثم أظهر سبحانه التعجّب من الذين يتّخذون من دون الله أنداداً كان كل شيء لله سبحانه ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ)) بعد كل هذه الآيات والدلائل((بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))، أي يسوّونه بغيره ويجعلونه عدلاً وشريكاً ومثيلاً لأشياء أُخر مما لا أثر لها ولم تخلق شيئاً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
2

وحيث أنّ الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءاً ومعاداً، والأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل الآيات من عقيدة إلى عقيدة، ومن خلق إلى خلق ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ)) أما باعتبار أبينا آدم (عليه السلام) وأما باعتبار خلق كل فرد من التراب والماء فإنّ الإنسان من النطفة وهي من النبات والحيوان وهما من الأرض والماء ((ثُمَّ قَضَى))، أي قدّر وكتب ((أَجَلاً))، اي مدة للإنسان عامة حتى تنقضي أو لكل فرد حيث إنّ لكل فرد مدة لا يتجاوزها ((وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)) أما تفصيلاً لـ (أجل)، أي إنّ الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سُمّي لكل شخص فليس بيده غيره الآجال، واما المراد أنّ البعث الذي هو أجل ومدة لبقاء الإنسان في الدنيا حياً وميتاً عنده فبيده قيام الساعة ((ثُمَّ أَنتُمْ)) أيها البشر ((تَمْتَرُونَ))، أي تشكّون في الله سبحانه، إنه بيده الخلق والموت والبعث لا بيد غيره فكيف تشكّون فيه وتتّخذون غيره شريكاً له.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
3

((وَهُوَ اللّهُ)) لا إله غيره ((فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، أي إنّ الخالق والمتصرّف في هذا الكون ليس إلا الله خلافاً لمن كان يجعل للسماء إلهاً خاصاً وللأرض إلهاً غيره، ومعنى (في) الظرفية المجازية، وإلا فليس لله سبحانه مكان، إذ المكان يوجب التحديد، والتحديد يوجب التجزئة، والتجزئة من صفات المصنوع لا الصانع ((يَعْلَمُ سِرَّكُمْ)) الخفي المكتوم أعم مما في الصدور، أو من الأسرار ((وَجَهرَكُمْ)) مقابل ذلك بالمعنيين ((وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ))، أي ما تعملون من الأعمال فإنّ العمل من كسب الإنسان، وفي هذه الآيات ردّ على الدهرية القائلين بقِدَم السماوات والأرض، والثنوية القائلين بإلهين نور وظلمة، والمشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكاً، والجُهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته، ومن أشبههم من العقائد الزائفة حول إله الكون.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
4

ثم أخبَرَ سبحانه عن الكفار الذين تقدّم ذِكرهم في أول السورة، قال ((وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ))، أي معجزة ودليل وبرهان وحُجّة ((مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ))الدالة على وجوده وصدق رسالتك يارسول الله ((إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ)) لا يقبلونها ولا ينظرون إليها نظر مُنصِف معتبِر.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
5

((فَقَدْ كَذَّبُواْ))، أي الكفار ((بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ)) من القرآن والرسول وسائر الآيات ((فَسَوْفَ)) في القيامة، أو في الدنيا حين ظهور الرسول ووضوح صدقه بالسيطرة والغَلَبة -كما أخبر- ((يَأْتِيهِمْ أَنبَاء))، أي أخبار ((مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ)) من الحق، وفي الآية تهديد كما تقول للمجرم: سوف تعلم إجرامك، تريد أنك تلاقي جزاه، إن كان المراد بـ (سوف) القيامة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
6

ثم حذّرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذّبوا وعصوا وعتوا عن أمر ربهم ((أَلَمْ يَرَوْاْ)) إستفهام تذكيري توبيخي، أي ألَم يعلموا -فإنّ الرؤية تُستعمل بمعنى العلم- ((كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ))، أي من الأمم، والقرن أهل كل عصر، وسمّي بذلك لأنّ بعضهم يقترن ببعض، ولذا إختُلف في المدة المراد به لاختلاف الإعتبار ((مَّكَّنَّاهُمْ))، أي تلك الأمم ((فِي الأَرْضِ)) بأن جعلناهم ملوكاً وقادة وساسة ذا عَدد وعُدد وإمكانيات ((مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ)) حيث كانوا هم أكثر تمكّناً منكم، والظاهر أنّ الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث كان السابقون أكثر تمكّناً منهم، لا يُقال أنّ من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكّناً من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاماً، لأنّ الجواب ظاهر، إذ قوله (ألَم يروا) ينافي ذلك فإنّ الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة -كما تقولون- بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا))هو من درّ إذا هطل، ومدرار صيغة مبالغة، أي كثرة الهطول حتى عمّهم الخير والبَرَكة والثروة، والمراد بالسماء المطر بعلاقة الحال والمحل، كما قال الشاعر:



وإذا نَزَلَ السماء بأرضِ قومٍ      رعيناه وإن كانوا غِضابا



((وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ))، أي مياههما بعلاقة الحال والمحال ((تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ))، أي تحت قصورهم وأشجارهم، أو باعتبار أنّ الماء أسفل من سطح الأرض التي يمشون عليها، وكل ذلك لم يفدهم في بقاءهم وحُسن ذِكرهم ((فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ)) والمراد هلاكهم بذهاب أثَرَهم وانقطاع نسلهم وعَقِبهم وفناء حضارتهم بسبب عصيانهم وكفرهم مقابل الأبياء والصالحين الذين بقوا إلى يوم الناس هذا، وإنّ صلاحهم وحُسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم وبقاء مناهجهم ((وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ))، أي خلفناهم من بعدهم أمة أخرى وجماعة آخرين.

تعاليق

momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
7

ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار معاندون في كفرهم لا أنهم لم يعلموا الحق ((وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ)) يارسول الله ((كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ))، أي مكتوباً في ورق يشهد لك بصدقك ((فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ))، أي مسّوه بيدهم حتى يتيقّنوا بأنّ ذلك ليس من الشعبذة وستر العيون (( لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا))، أي ما هذا الكتاب ((إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ))، أي سحر ظاهر، فلا يصدّقونك، قالوا نزلت هذه الآية في جماعة من الكفار قالوا: يامحمد لا نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنه من عند الله وأنك رسوله.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
8

((وَقَالُواْ))، أي قال هؤلاء الكفار ((لَوْلا))، أي هلا، ولماذا ما ((أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ))، أي على الرسول مَلَك نشاهده فنصدّق، ثم ردّ الله عليهم مقالتهم بأنه ((وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا)) كما إقترحوه ((لَّقُضِيَ الأمْرُ))، أي إنتهى أمَدَهم وأجَلَهم ((ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ))، أي يُهلكون ويموتون، وذلك لما جرت سُنّة الله أن لا ينزل الملائكة إلى المعاندين إلا وقت موتهم، وهنا سؤال هو: أنّ هذا لا يكون جواباً للكفار -على هذا المعنى- إذ لم يقولوا: فليغيّر الله سنّته بأن يُنزِل المَلَك ويُبقينا حتى نؤمن، وسؤال ثانٍ هو أنه: لماذا جرت سُنّة الله على ذلك أليس إهتداء الناس غاية الخِلقة فما المانع من توفّر أسباب الهداية بإنزال المَلَك، والجواب عن الاول أنّ سُنّة الله جرت على الهلاك عقب مجيء الملائكة كما جرت سُنّته على الإحراق عقيب الإلقاء في النار وليس للكفار هذا الإشكال إذ يقول النبي للكفار: ولماذا تريدون نزول الملائكة؟ ألِلعناد؟ فلا داعي إلى إجابتكم، أم لأنه خارق والإتيان بالخارق موجب للتصديق؟، فقد أتيت بالخوارق أم لأنه خارق خاص؟، فالخارق الخاص لا يلزم إجابته لدى العقل والعقلاء وهذا كما إذا حمل الطبيب شهادة الكلية فيقول له المريض إئتني بشهادة رئيس الحكومة، إنه سؤال سخيف لدى العقلاء، والجواب عن الثاني: أنه سبحانه عَلِمَ عنادهم وأنه لا يفيدهم إنزال المَلَك كما بيّن ذلك في قوله (ولو نزّلنا عليك كتاب) وما كان يمنعهم أن يقولوا إنّ ما يشاهدونه من صورة المَلَك إنما ذلك سحر مبين !.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
9

ثم بيّن سبحانه وجهاً آخر لعدم إجابة إقتراحهم ((وَلَوْ جَعَلْنَاهُ))، أي الرسول ((مَلَكًا)) مُتزَلاً من السماء ((لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً))، أي في صورة رجل فإنّ خلقة البشر لا تستعد لأن يرى المَلَك في صورته، إلا إذا بُدّلت صورته إلى صورة إنسان وواقع مَلَك، وذلك لا يفيد إقتراحهم، فإنّ المَلَك جُرم لطيف لا تراه عين البشر، كما لا يرى الإنسان الهواء ((وَلَلَبَسْنَا)) من اللبس بمعنى الإشتباه ((عَلَيْهِم))، أي على هؤلاء المقترحين بإنزال المَلَك ((مَّا يَلْبِسُونَ))، أي كما يلبسون اليوم على أنفسهم أمر النبي لأنه إنسان مثلهم، كأنّ إنزال الملائكة في صورة البشر موجباً لأن نُلبس نحن عليهم الأمر -مثل لبسهم هذا اليوم- وحاصل جواب الإقتراح أولاً: إنّ المَلَك لا ينزل إلا لأمور خاصة كما نزل في قصة إبراهيم (عليه السلام) ولوط (عليه السلام)، وثانياً: إنّ المَلَك إذا نزل نزل في صورة بشر فيبقى شكّهم على حاله.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
10

ثم قال سبحانه على سبيل التسلية للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ)) إستهزئت بهم أممهم وسخروا منهم، فلستَ أنت بأول رسول يُستهزئ بك ويُقترح عليك إقتراحات على تعنّد وتمسخر ((فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم))، أي فحلّ وأحاط بالساخرين للرُسُل ((مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ))، أي أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء سخريتهم، أو المراد أنّ الأنبياء كانوا يوعدونهم بالعذاب فكانوا يسخرون بإيعادهم فحاق بهم العذاب المستهزء به.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
11

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((سِيرُواْ فِي الأَرْضِ))، أي سافروا فيها ((ثُمَّ انظُرُواْ)) إذا مررتم ببلدان الأنبياء وتفكّروا ((كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ))، أي الأمم التي كذّبت أنبيائه كيف أُبيدت ولم تبقَ منهم باقية فإنّ ديار الأمم السابقة حوالي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين ومصر كانت باقية وآثار الخسف والهلاك على بعضها وأخبار الهلاك والتدمير كانت عند الناس مشهورة، فإذا سافروا وسألوا علموا ذلك وكان ذلك سبباً لردعهم عن تكذيب الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والإستهزاء بالقرآن.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
12

ثم إحتجّ سبحانه على المكذّبين بحجّة أخرى فقال ((قُل)) يارسول الله لهؤلاء المكذّبين ((لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) إذ لا يتمكّنون أن يُجيبوا بأنها لهم ولا أنها لأصنامهم، وإذ يتحيّرون بالجواب ((قُل)) أنت إنما هي كلها ((لِلّهِ)) فلماذا تتّخذون إلهاً غيره؟ وإذ سبق التهديد والوعيد جاء هنا بالتبشير كي تلين القلوب القاسية بالتهديد مرة والتبشير أخرى ((كَتَبَ))، أي أوجب سبحانه ((عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ)) على الخلق واللطف بهم، وإيجاب ذلك من مقتضيات الحكمة فتطلبوا أيها الناس رحمته الواسعة بالإطاعة والإمتثال، إنه إله الكون وراحمهم في هذه النشأة و((لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، اي جمعاً ينتهي إلى ذلك اليوم فإنّ الناس يجتمعون تدريجاً لا دفعة فكل إنسان يولد في يوم القيامة، فبيده سبحانه المعاد أيضاً ((لاَ رَيْبَ فِيهِ))، أي محل ريب، وإنّ إرتياب المبطلون وإذا كان المبدء والوسط والمعاد بيده تعالى فـ((الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ))، أي إنّ غير المؤمنين يكونون قد خسروا أنفسهم حيث باعوها واشتروا عوضها العذاب، بينما باع المؤمنون أنفسهم واشتروا بها الجنة والثواب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
13

((وَلَهُ))، أي لله سبحانه ((مَا سَكَنَ)) وهدء ((فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) أو المراد بما سَكَن، مطلق الأشياء الساكنة والمتحركة، من قولهم: فلان يسكن البلد كذا، أي يستقر فيه، له كل ما استقرّ وحلّ في هذين الزمانين الليل والنهار، أما على الثاني فوجه الكلام واضح، وأما على الأول: فلعلّ التخصيص بالساكن -مقابل المتحرك- لإلقاء الرهبة في النفس حيث إنّ الساكن نفسه يهدء ويسكن إذا صار في محل ساكن لا حسّ فيه ولا حركة ((وَهُوَ السَّمِيعُ)) لأقوال العباد ولكل صوت ((الْعَلِيمُ)) بكل شيء.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
14

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((أَغَيْرَ اللّهِ))، أي هل غير الله سبحانه ((أَتَّخِذُ وَلِيًّا))، اي مالكاً ومولى وربّاً وهو المتّصف بكونه ((فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي خالقهما ومبدعهما ومنشئهما، إنه من السخافة أن يترك الإنسان الخالق ويتمسّك بذيل المخلوق ((وَهُوَ))، أي الله سبحانه ((يُطْعِمُ)) فإنّ الأطعمة والأرزاق من عنده ((وَلاَ يُطعَمُ))، أي لا يرزقه أحد، فهل من المنطق أن يترك الإنسان الخالق الرازق ويأخذ المخلوق المرزوق الذي ليس بيده أي شيء؟ ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((إِنِّيَ أُمِرْتُ)) أمرني الله ((أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ)) لله وصدّق بكلماته واتّبع أوامره، وكوني أول مَن أسلَم لعلمي التام بالخالق سبحانه كما قال: إنّي أولّ من أجاهد، وإنّي أول من أسافر، دلالة لامتلاء النفس بذلك الشيء ((وَ)) أمَرَني الله بأن ((لاَ تَكُونَنَّ)) التأكيد للنفي (( مِنَ الْمُشْرِكَينَ)) الذين يجعلون مع الله شريكاً، والظاهر أنّ المراد بالشرك أعم ممن يجعل معه شريكاً مع الإعتقاد به سبحانه، أو بدون الإعتقاد به، والمعنى: إنّي أُمرتُ بالأمرين: الإسلام وعدم الشرك.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
15

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء المشركين ((إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي)) بمخالفة أوامره ((عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ))، أي عذاب يوم القيامة، وإنما قال (أخاف) مع أنه متيقّن أما من جهة التعبير بالخوف حتى عن المتيقّن، كما يقول مَن حُكِمَ عليه بالإعدام: إنّي أخاف الموت، اي أرهبه، وأما لاحتمال النجاة لأنّ رحمته وسعت كل شيء، فمعنى الخوف على هذا الإحتمال.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
16

((مَّن يُصْرَفْ)) العذاب ((عَنْهُ يَوْمَئِذٍ))، أي في ذلك اليوم العظيم ((فَقَدْ رَحِمَهُ)) إذ لا أحد -باستثناء المعصومين- إلا ويكون مستحقاً للعذاب، ولذا كان الصرف عنه بمقتضى الرحمة ((وَذَلِكَ)) الصرف أو الرحم ((الْفَوْزُ)) والفلاح ((الْمُبِينُ)) الواضح الذي لا فوز مثله.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
17

ويستطرد السياق بذِكر بعض صفاته سبحانه في مقابل المعاندين المنكرين ((وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ)) من مسّ، أي أمسك بما هو ضرر من فقر أو مرض أو ما أشبههما ((فَلاَ كَاشِفَ لَهُ))، أي دافع له ((إِلاَّ هُوَ)) فلا أحد مؤثّر في الكون، وإنما العلل تؤثّر في المعلولات بإذن الله سبحانه ((وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ)) غنى أو صحة أو ما أشبههما ((فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ)) أنه القادر المطلق على الخير والشر، أما من سواه فقدرته من قدرته مع أنه ليس له القدرة إلا قدرة ناقصة لبعض الأشياء.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
18

((وَهُوَ)) تعالى ((الْقَاهِرُ))، أي الذي يقهر ويغلب، ولازمة القدرة ((فَوْقَ عِبَادِهِ))، أي الجميع تحت تسخيره وسيطرته لا الفوقية المكانية، فإنه أجلّ من الزمان والمكان ((وَهُوَ الْحَكِيمُ)) في أعماله، فليس كونه قاهراً موجباً للخوف من ظلمه كسائر الجبابرة القاهرين ((الْخَبِيرُ)) بما يصدر من العباد، فلا يأخذ أحداً بجُرم أحد كما هو شأن القاهرين من البشر حيث يشتبهون كثيراً لجهلهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
19

في بعض التفاسير أنّ أهل مكة أتوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: أما وَجَدَ الله رسولاً غيرك ما نرى أحداً يصدّقك فيما تقول ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذِكر فأرِنا مَن يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فنزلت هذه الآية ((قُلْ))يارسول الله لهؤلاء الكفار ((أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً))، أي أعظم من حيث الشهادة، حتى آتيكم به دليلاً على صدقي وصحة نبوّتي، إنهم يتحيّرون في الجواب طبعاً، ويفكّرون في أفراد الإنسان العظماء بنظرهم ليقولوا: فلان، لكن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقطع تحيّرهم وتفكّرهم بما علمه الله سبحانه ((قُلِ)) يارسول الله ((اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ))، أي هو شاهد يشهد بصدق نبوّتي، وقد مرّ سابقاً أنّ شهادة الله هو إجراء الإعجاز على يده الكريمة ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ)) أنزله تعالى عليّ ((لأُنذِرَكُم بِهِ))، أي أخوّفكم بسببه من العقاب لمن كفر وعصى ((وَمَن بَلَغَ)) عطف على (كم)، أي أنذر به مَن بَلَغه هذا القرآن إلى يوم القيامة، وروي عن الباقر والصادق (عليه السلام): "إنّ (مَن بَلَغ) معناه مَن بَلَغ أن يكون إماماً من آل محمد فهو ينذر بالقرآن كما أنذر به رسول الله"، وعليه فهو عطف على الضمير المرفوع في "أنذر"، أي أُنذِر أنا الرسول والأئمة -الذين هم مصداق (مَن بلغ)- للناس ((أَئِنَّكُمْ))، أي هل أنكم أيها السامعون الكفار((لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى)) إنه إستفهام إنكاري، أي كيف تشهدون بذلك بعد وضوح أدلّة التوحيد وقيام الحجّة والبرهان على بطلان كل شريك، والمراد الشريك مطلقاً لو كان واحداً، وذَكَرَ (آلهة) من باب المورد ((قُل)) أنت يارسول الله إذا لم يعترفوا أولئك بالتوحيد ((لاَّ أَشْهَدُ)) أنا بمثل شهادتكم بالشريك وإنما أنا لا أعتقد إلا إلهاً واحداً ((قُلْ)) يارسول الله ((إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)) لا شريك له ((وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ))، أي من الأوثان التي تُشركون بسببها وتدخلون أنفسكم في زمرة المشركين من أجلها.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
20

ثم ذَكَرَ سبحانه أنّ أهل الكتاب كسائر المشركين يعلمون الحق لكنهم يتجاهلونه ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ))، أي أعطيناهم ((الْكِتَابَ)) يُراد به الجنس الأعم من التوراة والإنجيل وغيرهما ((يَعْرِفُونَهُ))، أي يعرفون الرسول ((كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ)) فكما يعرف الشخص إبنه بحيث لا يمكن أن يشتبه بغيره، وكذلك لا يشتبه أهل الكتاب يعرفون الرسول بوصفه ومزاياه الموجودة في كتبهم ((الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ)) بأن باعوها بالكفر، المتعقّبة ((فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) إنّ عدم الإيمان مترتّب على الخسران، فالخاسر لا يؤمن والرابح يؤمن.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
21

((وَمَنْ أَظْلَمُ))، أي مَن يكون أكثر ظلماً وتعدّياً عن الحق ((مِمَّن افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا)) بأن جَعَلَ له شريكاً وزَعَمَ أنّ الله أمَرَه بذلك كأهل الكتاب وكقسم من المشركين الذين كانوا يقولون أنّ الله أمَرَنا باتخاذ الأنداد والشركاء ((أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ)) كما لو كذّب بالقرآن أو بالرسول أو بالمعاجز، فإنها كلها من آيات الله سبحانه، لكن الكتاب آية صامتة، والرسول آية ناطقة ((إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)) أنهم لا يفوزوا بخير الدنيا ولا سعادة الآخرة.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
22

((وَ)) اذكر يارسول الله ((يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)) وهو يوم القيامة الذي يجمع فيه هؤلاء المشركون وسائر المكذبين ((ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ))وجعلوا لله شريكاً ((أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ))، أي الشركاء لله الذين زعمتوها، والإضافة إلى (كُم) باعتبار أنهم إتّخذوها كما تُضاف إلى (الله) باعتبار أنه سبحانه المجعول في رد يُفهم فيُقال: شركائي ((الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) أنهم شركاء لله سبحانه؟ واستفهام إنكاري للتوبيخ والتقريع.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
23

((ثُمَّ)) بعد هذا السؤال منهم ((لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ))، أي معذرتهم فإنّ الفتنة على معان منها المعذرة، أو هو على سبيل المجاز، أي لم تكن نتيجة فتنتهم بالأصنام إلا التبرّي منها، كما يُقال: لم يكن درسهم وقضائه إلا رشوة وخيانة، يُراد أنّ عاقبتهما كانت الرشوة والخيانة ((إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)) فيحلفون بالله كذباً أنهم ما كانوا مشركين كما إعتادوا في الدنيا أن يحلفوا كذباً حينما يقعون في المشاكل.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
24

((انظُرْ)) يارسول الله إلى حلف هؤلاء ((كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) بأنهم ما كانوا مشركين، وهذا أمر يُقصد به التعجيب والإستغراب ((وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ))، أي ضلّت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ويفترون الكذب على الله بقولهم هذه شفعائنا عند الله، فلم يجدوها ولم ينتفعوا بها وإنما الأمر لله وحده.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
25

قيل أنّ نفراً من مشركي مكة جلسوا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو يقرء القرآن فقال بعضهم لبعض: ما يقول محمد؟ قال: أساطير الأولين مثل ما كنتً أحدّثكم عن القرون الماضية، فنزلت هذه الآية ((وَمِنْهُم))، أي من الكفار المشركين ((مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ))، أي إلى كلامك يارسول الله ((وَ)) لكن حيث أنهم أعرضوا عن الحُجّة بعد ما بيّن لهم ((جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)) هي جمع كنان وهي ما ستر شيئاً، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن الحق غشيت على قلبه غشاوة إذ صار الإعراض له مَلَكة وعادة، ونسبته إلى الله سبحانه باعتبار أنه سبحانه هو الذي جعل الإنسان هكذا، فإنه علّة كل شيء، وإنّ السبب المباشر هو الشخص ((أَن يَفْقَهُوهُ))، أي حتى لا يفقهوه بمعنى لا يفهموه ((وَ)) جعلنا ((فِي آذَانِهِمْ وَقْرًا)) الوقر هو الثقل في الأذن، فهم كمن لا يسمع حيث أنهم لا يستفيدون من سماعهم ((وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ))ومعجزة خارقة على نبوّتك وصدقك ((لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا))، أي بتلك الآيات، إذ قدّر أنّ على قلوبهم ما كانوا يعملون ((حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ)) لا يطلبون الحق بل ((يُجَادِلُونَكَ)) ويناقشونك ((يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ))، أي ما هذا القرآن ((إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ)) أساطير جمع أسطورة، بمعنى الخرافة، من سطر إذا كتب، يعني ما في القرآن من القصص والأحكام وغيرها ليست إلا أخبار الأقوام السابقة وترهّاتهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
26

((وَهُمْ))، أي هؤلاء الكفار الذين سبق ذكرهم ((يَنْهَوْنَ عَنْهُ))، أي عن النبي، أو القرآن، يعني ينهون الناس عن إتّباع الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو القرآن ((وَيَنْأَوْنَ)) من نأى بمعنى تباعد، أي يتباعدون ((عَنْهُ))، أي عن الرسول أو القرآن، فهم يجمعون بين رذيلي الكفر والأمر بالمنكر ((وَإِن))، أي وما ((يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ)) فإنهم لا يضرّون النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل يضرّون أنفسهم بخزي الدنيا وعذاب الآخرة ((وَمَا يَشْعُرُونَ))، أي لا يعلمون أنهم بذلك يهلكون أنفسهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
27

((وَلَوْ تَرَىَ)) يارسول الله أحوالهم في الآخرة وكيف أنهم يندمون وأفرطوا في دار الدنيا ((إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ))، أي أشرفوا واطّلعوا ووقفوا على حافّتها لدخولها ((فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ))، أي يرجعوننا إلى الدنيا ((وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا)) دلائله وبراهينه ((وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)) بالله والرسول وماء به، وجملتا (لا نكذّب) و(نكون) من مدخول التمنّي والتقدير ياليت لنا إنتفاء التكذيب والكون من المؤمنين.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
28

((بَلْ بَدَا لَهُم))، أي ظهر لهؤلاء الكفار الحق جليّاً بحيث لا مجال لإخفائهم له ((مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ)) في دار الدنيا حيث كانوا يعرفونه كما يعرفون أبنائهم ولعلّ وجه الإضراب بـ (بل) بيان أنه ليس الأمر على ما قالوه من أنهم لو رُدّوا إلى الدنيا لآمنوا فإنّ التمنّي الواقع منهم يوم القيامة ليس لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العقاب الذي يعاينوه ((وَلَوْ رُدُّواْ)) إلى الدنيا كما تمنّوا ((لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ))، أي لرجعوا إلى كفرهم وعصيانهم ((وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) في أنهم لو رُدّوا لعملوا صالحاً كما في آية أخرى (ربّ ارجِعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت) ولا يخفى أنّ الإنسان إذا كان ذا طبع عنادي لا ينفك عن طبيعته حتى ولو رأى المشاهد العظيمة من عناده كما هو المشاهَد المجرّب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
29

وقد كان هؤلاء الكفار ينكرون المعاد وهم في دار الدنيا ((وَقَالُواْ إِنْ هِيَ))ن أي ما هي ((إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا))، أي الحياة القريبة التي نحن فيها وليس ورائها شيء ((وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ)) بعد الموت والبعث هو الإرسال والإحياء.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
30

((وَلَوْ تَرَى)) يارسول الله أحوال هؤلاء الكفار يوم القيامة ((إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ))، أي في معرض خطابه وحسابه، كالشخص الذي يقف عند الملك وهو مجرم فإنه في حال يأس واضطراب ما ينطق الملك في حقه من العقاب، ومن المعلوم أنّ الله لا يُرى وليس بجسم ولا له مكان فالمعنى على سبيل المجاز ((قَالَ)) ربهم لهم ((أَلَيْسَ هَذَا)) اليوم الذي كان يخبر به الأنبياء وكنتم تنكرونه ((بِالْحَقِّ)) وهو إستفهام توبيخ وتقريع ((قَالُواْ)) مقرّين مذعنين ((بَلَى)) هو حق((وَرَبِّنَا)) وإنما حلفوا خوفاً فإنّ الخائن يردف كلامه بالحلف إستمالة لقلب المخوف منه وإظهاراً لأنه يوافق كلام المتكلّم ((قَالَ)) الله سبحانه ((فَذُوقُواْ العَذَابَ)) والمراد بالذوق ليست الذائقة اللسانية بل ذوق الجسد فإنه يُطلق عليهما ((بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ))، أي بسبب كفركم، وكان السؤال للإهانة والإذلال.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
31

ثم أخبر سبحانه عن حال هؤلاء الكفار بقوله ((قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ)) المراد بلقاء الله جزائه وعقابه كما يُقال: فلان لقي عمله، أي جزاء عمله وإلا فليس لله مكان يُرى ((حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ))، أي القيامة ((بَغْتَةً))، أي فجأة من بغت يبغت بمعنى فجأ وإنما ذكر ذلك لأنهم في دار الدنيا كانوا لا يحسبون حسابها حتى يستعدوا لها، وهل المراد بالساعة الموت -كما ورد: من مات قامت قيامته- حتى يلائم ما بعده أم المراد القيامة ويكون المراد العذاب الشديد لأنّ عذاب الآخرة أشد من عذاب القبر، إحتمالان ((قَالُواْ))، أي قال هؤلاء الكفار عند معاينة الأهوال والعذاب ((يَا حَسْرَتَنَا)) الحسرة شدة الندم يعني أيتها الحسرة أحضري فهذا وقتك ((عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا))، أي على ما تركنا وضيّعنا في الدنيا من أعمارنا ولم نقدّم عملاً صالحاً ننتفع به في هذا اليوم ((وَهُمْ))، أي هؤلاء الكفار ((يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ)) الوِزر الثقل وحيث أنّ للذنوب ثقلاً تُسمى أوزاراً ((عَلَى ظُهُورِهِمْ)) هذا من باب التشبيه فكما أنّ مَن يحمل ثقلاً على ظهره يكون في تعب وحرج كذلك مَن يحمل ذنباً ومنه عليه دَين ((أَلاَ)) للتنبيه ((سَاء))، أي بئس ((ما يَزِرُونَ))، أي ما يحملون من وِزر بمعنى إثم وحمل خطاءً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
32

((وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، أي ليست الحياة القريبة التي إغترّ بها الكفار فعملوا لها وتركوا آخرتهم ((إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ)) اللهو هو ما يُلهي الإنسان عن الجد إلى الهزل، فإنّ الدنيا ليست إلا ألعاباً وملهيات، وإنما كانت كذلك لأنه لا حقيقة لأعمالها فهي فانية زائلة وإذا بالإنسان يرى نفسه ولم يحصل شيئاً وغير خافِ أنّ ذلك بالنسبة إلى الأعمال التي لا تعقب ثمرة صالحة، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة ونِعم متجر العقلاء((وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ)) اللام للتأكيد، أي إنّ الدار الثانية التي هي الجنة ونعيمها ((خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ)) معاصي الله، وقد جرّد (خير) عن معنى التفضيل، أو بملاحظة أنّ في الدنيا أيضاً خيراً في الجملة، ثم أنها خير للمتقين، أما غيرهم فالدنيا خير لهم ولذا وَرَدَ " "أنّ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" ((أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)) أيها البشر، فإنّ مَن عَقِلَ وأدرك عَلِمَ أنّ الباقي السرمدي الذي لا يشوبه حزن وهَم خير من الفاني المزيج بأنواع المصائب والرزايا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
33

ثم سلّى سبحانه نبيّه على تكذيبهم إياه وعدم إنصياعهم لأوامره وإرشاده بقوله ((قَدْ نَعْلَمُ)) يارسول الله، و(قد) تُستعمل في المضارع للتحقيق، إلا إنّ الغالب أنها فيه للتقليل ((إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)) مما سنيبونه إليك من أنّك شاعر وكاهن ومجنون وما أشبه ذلك من السُباب والإستهزاء الذي كانوا يُكيلونه للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((فَإِنَّهُمْ))، أي الكفار ((لاَ يُكَذِّبُونَكَ)) يارسول الله في قرارة نفوسهم لعلمهم أنك صادق، وهذا نوع من التسلية، إذ الإنسان إذا عَلِمَ أنّ عدوّه يُجلّه في قرارة نفسه كان ذلك سلوة له لما عَلِمَه من الإحترام الكامن، قالوا: إلتقى أخنس بن شريف وأبو جهل بن هشام فقال أخنس: ياأبا الحَكَم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل: ويحك والله إنّ محمداً لصادق وما كَذَبَ قط ولكن إذا ذَهَبَ بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوّة فماذا يكون لسائر قريش؟، فنزلت هذه الآية، وروي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) معنى آخر للآية حاصله إنهم لا يُكذّبونك بحُجّة ولا يتمكنون من إبطال ما جئتَ به ببرهان ((وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ)) وهم الكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر وغيرهم بالمنع عن الإسلام ((بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ))، أي ينكرون آيات الله كما قال سبحانه (وجَحَدوا بها واستيقنتها أنفسهم).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
34

ثم ذكر سبحانه تسلية للنبي أنه ليس بأول رسول يُكذّب بقوله ((وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ)) ليس تنكير الرُسُل لأنه ليس هناك رسول بكذب، حتى يُنافي قوله (ياحسرةً على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) المفيد لتكذيب كلّ رسول وإنما الكلام حيث جرى مجرى التسلية كان يكفي ذلك الإلماع، إلا أنّ هذا الجنس أيضاً في معرض التكذيب والإزدراء ((فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ))، أي على تكذيب الناس لهم ((وَأُوذُواْ)) أما عطف على (كُذّبوا) أو على (كذّبت) ((حَتَّى أَتَاهُمْ))، أي جائهم ((نَصْرُنَا)) إياهم على المكذّبين، فاصبر أنت يارسول الله حتى يأتيك النصر ((وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ))، اي لا أحد يقدر على تغيير ما أخبر به من نصر الرُسُل وإهلاك أعدائهم ((وَلَقدْ جَاءكَ))يارسول الله ((مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ))، أي بعض أخبار الرُسُل السابقين كيف نصرناهم على أعدائهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
35

ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار لا يؤمنون فلا تتعِب نفسك لأجلهم ولا تحزن، وهنا نكتة بلاغية لا بأس ببيانها، وهي أنّ الألفاظ والجمل وُضعت للمعاني الخاصة، لكنها كثيراً ما تُستعمل لإنشاء مفهومها الموضوع له، لكن يُراد غير ذلك، كما يُستعمل الإستفهام والتعجّب بالنسبة إليه سبحانه، مع العلم أنه لا يجهل شيئاً ولا يتعجّب من شيء، وإنما إستعمال الإستفهام والتعجّب بداعي التحريض أو الردع أو نحوهما، وهكذا الخطاب الغليظ أو الرقيق لأحد قد يُراد به المعنى الموضوع له، وقد يُراد به داعي آخر يفرغ في مثل هذا القالب، فإنّك إذا أردت تنبيه أحد من جيرانك تغلظ لولدك في الخطاب مع أنك لا تريده بالذات، فمثلاً نقول: لو أنك ألقيت النفاية باب الدار لحبستك، فإنك لا تريده بل تنشأ هذا الكلام بداعي زجر الجار عن القيام بمثل هذا العمل، بل قد يكون عمل يُستفاد منه شيء حسب المتعارف، يأتي به الإنسان لغرض آخر، كما لو أردت تأديب ولدك لما إقترفه من عمل سيء فإنك تعمل إلى خادمك وترفسه برجلك -في هدوء- قائلاً: لماذا فعلت هذا الفعل؟ وإنكا لا تريده إطلاقاً وإنما تريد إفهام ولدك أنّ هذا العمل له هذا الجزاء، وعلى هذا الوجه جرى الكلام في هذه الآية الكريمة (وإن كانَ كَبُرَ) إنه سبحانه يريد بيان غلظة قلوب الكفار وعنادهم لكنه يصوغه في إسلوب خطاب للنبي بأنك توسّلت بكل الوسائل من الصعود إلى السماء وجعل النفق في الأرض -مما يتوسّل الناس بهما في مأربهما- فإنّ الكفار لا يؤمنون، كما إنّ قصة موسى (عليه السلام) (أخَذَ برأس أخيه يجرّه)، من هذا القبيل أيضاً ((وَإِن كَانَ)) يارسول الله ((كَبُرَ))، أي عَظُمَ واشتدّ ((عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ))، أي إعراض هؤلاء الكفار عن الإسلام ((فَإِنِ اسْتَطَعْتَ))، أي قدرت ((أَن تَبْتَغِيَ))، أي تطلب وتتّخذ ((نَفَقًا))، أي سرباً ((فِي الأَرْضِ)) تشبيه للمعقول بالمحسوس، فكما أنّ مَن يريد فتح مدينة يتّخذ الأنفاق من خارج المدينة إلى داخلها ثم يدخلها فجأة ليستولي عليها، فكذلك إن تمكّنت أن تصنع مثل ذلك للسيطرة على أرواح هؤلاء وقلوبهم ((أَوْ)) تبتغي وتطلب ((سُلَّمًا))، أي مصعداً ومرقاةً ((فِي السَّمَاء)) لتصعد عليه((فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ))، أي حُجّة وبرهان، غير ما أنزلنا عليك، وجواب (إن) محذوف، أي فافعل، حُذف لدلالة الكلام عليه، كما تقول: إن تمكّنت أن تتصدّق، وتحذف قولك: فافعل ((وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ))، أي الناس ((عَلَى الْهُدَى)) بأن يُلجئهم إلى قبول الإيمان، لكنه لا يشاء ذلك لأنه حينئذٍ يُبطل الإمتحان والإختبار ((فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ)) فإنّ الجاهل هو الذي يظنّ أنّ بالإمكان العادي إجتماع الناس كلهم على أمر، أما العاقل المجرّب فيعلم أنه ما من شيء إلا وفيه خلاف وخصام حتى البديهيّات الأولية كنور الشمس، فإنّ السوفسطائيين ينكرونه، ولم يكن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في معرض الجهل حتى يكون الكلام ردعاً له وإنما صيغَ الكلام لداعي تأنيب الكفار حتى إنّ قصد هدايتهم -جداً- يكون من أعمال الجاهلين، وهنا سؤال وهو أنه: كيف تقولون في الآيات النازلة بالنسبة إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمثل هذه المحامل ولا تقولون في ما أشبهها من الآيات في غيره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمثل تلك؟، والجواب: القرينة الخارجية وهي أنّ النبي معصوم أوجبت ذلك كما إنّ القرينة الخارجية أوجبت حمل الإستفهام من الله تعالى على معنى آخر بينما الإستفهام من غيره سبحانه يحمل على معناه الحقيقي.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
36

إنّ الذين يستجيبوك يارسول الله هم أحياء، لم يمُت الضمير في أجوافهم والذين يكفرون أنهم أموات، فكما أنّ الميت لا يسمع ولا ينتفع كذلك هؤلاء ((إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ))، أي يقبل الإيمان مَن كان حيّاً يسمع ((وَالْمَوْتَى)) لا سماع لهم حتى ((يَبْعَثُهُمُ اللّهُ)) في الآخرة فيسمعون أنهم لا علاج لهم، يقول الشاعر:لقد أسمعتَ لو ناديتَ حيّاً ولكن لا حياةَ لمن تنادي((ثُمَّ)) بعد البعث والحساب ((إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ))، أي يرجعون إلى حُكمه وقضائه، وهذا لتأكيد أنّ الكفار أموات، كقوله (عليه السلام): "ياأشباه الرجال ولا رجال"، فإنّ (ولا رجال) لتأكيد الجملة الأولى.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
37

((وَقَالُواْ))، أي قال الكفار ((لَوْلاَ))، أي هلّا ((نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ))، أي معجزة خارقة ((مِّن رَّبِّهِ)) فإنهم بعدما عجزوا عن مقابلة القرآن، قالوا للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أنزِل علينا مثل عصى موسى وناقة صالح وأشباههما حتى نؤمن بك، فردّهم سبحانه بقوله ((قُلْ))يارسول الله ((إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً)) كما تقترحون ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ)) قدرة الله بل إنّ ليس في إنزالها من مصلحة، فإنهم معاندون والمعانِد لا تفيده ألف آية، كما لم تفِد مع فرعون عصى موسى (عليه السلام) ومع قوم صالح (عليه السلام) الناقة ولو لم يكن هؤلاء معاندون كفاهم الكتاب الحكيم، ثم إنّ إتيان آية موسى (عليه السلام) أو ما أشبهها أبعد لقبولهم إذ القرآن الذي هو لسانهم ينسبونه إلى السحر فكيف بالعصى التي ليست من مهنتهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
38

وحيث إنّ جو هذه السورة حول التوحيد وشؤونه والآيات الكونية وردع الكفار بمختلف صنوفهم عن عقائدهم الباطلة، بيّن سبحانه بعض مخلوقاته الدالة على وجوده وصفاته الكمالية بقوله ((وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ)) من دبّ يدبّ إذا تحرّك، ثم عمّ كلّ حيوان ولو لم يتحرك، كما إنه يشتمل حيوانات البَر لمقابلته بالطائر، وذَكَرَ (في الأرض) للتعميم ((وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ)) كما إنّ ذِكر (يطير بجَناحَيه) للتعميم أيضاً، والسر أنه كثيراً ما يعبّر بمثل هذا التعبير ويُراد به العموم مبالغة، فإذا جاء القيد أفاد العموم الإستغراقي ((إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم)) أيها البشر فإنّ كلّ نوع منها أمّة مستقلة وهي مثلكم في الإبداع ولُطف الصنع ودقّة التركيب ((مَّا فَرَّطْنَا))، أي ما تركنا ((فِي الكِتَابِ))، أي كتاب الكون، فإنّ الكون كتاب الله والموجودات كلماته، وإنما سمّي الكون كتاباً لأنّ الكتاب بمعنى الجمع، مِن كَتَبَ بمعنى جَمَعَ، وهذا الكون قد جمع الأشياء فهو كتاب الله التكويني ((مِن شَيْءٍ)) فهذا الكتاب قد إشتمل على جميع الأشياء ومختلف الأصناف، فهل بعد ذلك يطلب أحداً دليلاً على وجود الله؟ ((ثُمَّ)) هذه الأمم كلها بعد الممات ((إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ))، أي يجمعهم يوم القيامة جميعاً، كما قال (وإذا الوحوش حُشِرت) فهو بدئها وإليه عودها.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
39

((وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا))، أي بدلائلنا الدالة على وجودنا وسائر صفاتنا، بعد هذه الدلائل الواضحة ((صُمٌّ)) جمع أصمّ وهو الذي لا يسمع((وَبُكْمٌ)) جمع أبكم وهو الذي لا يتكلم، فهو كالذي لا يسمع ولا يتكلم حتى يتملّى العلم ويدركه، فإنّ العلم يأتي من الأذن ويخرج من اللسان ((فِي الظُّلُمَاتِ)) فلا يبصر حتى يرى الأشياء، إنّ الكافر مثل هذا الشخص لأنه قد عطّل جوارحه فلا يدرك شيئاً كما لا يدرك الأعمى الأبكم الأصم شيئاً ((مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ))، أي يتركه ولا يجبره على الهداية حتى يضلّ الطريق وذلك بعدما بيّن له الحجّة فلم يقبل بل أعرض عنها -وقد تقدّم معنى ذلك- ((وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) باللُطف الخفي به كما قال سبحانه (والذين اهتدوا زادهم هُدى) و(والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلنا).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
40

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((أَرَأَيْتُكُم))، أي أخبروني، فإنّ (أرأيتَ) بمعنى أخبر، و(كُم) للخطاب، وهو يتغيّر حسب أفراد المُخاطَب وتثنيته وجمعه كقوله سبحانه (أرأيُكَ هذا الذي كرّمتَ عليّ) ((إِنْ أَتَاكُمْ))، أي جائكم ((عَذَابُ اللّهِ)) بأن نزلت صاعقة أو خسفت بكم الأرض أو ما أشبههما -كما حدث في الأمم السابقة- ((أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ))، أي القيامة بأهوالها وعذابها ((أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ)) لكشف العذاب والأهوال عنكم ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في أنّ هذه الأصنام آلهة؟ وهم بفطرتهم يجيبون بالنفي، وإنهم لا يدعون غير الله، بل يدعون الله وحده، وفي ذلك دلالة على بطلان الأصنام وعبادتها.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
41

ولذا قال سبحانه ((بَلْ إِيَّاهُ))، أي الله سبحانه ((تَدْعُونَ)) وتقبلون عليه في شدائدكم ((فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ))، أي يرفع الضُر الذي دعوتموه من أجله ((إِنْ شَاء)) الكشف عنكم ((وَتَنسَوْنَ)) في وقت الشدة ((مَا تُشْرِكُونَ)) من دون الله.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
42

ثم بيّن سبحانه أنّ الأمم الماضية لما أتَتهم الرُسُل لوم يؤمنوا يهم أصابتهم أنواع البلاء وإنّ حال هؤلاء كحال أولئك إن لم يؤمنوا ((وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ)) رُسُلنا ((إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ)) يارسول الله فلم يؤمنوا ((فَأَخَذْنَاهُمْ))، أي أخذنا تلك الأمم ((بِالْبَأْسَاء))، أي الفقر والبؤس ((وَالضَّرَّاء))، أي الأوجاع والأسقام ((لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ))، أي: كي يتضرّعوا إلى الله سبحانه، فإنّ الإنسان إذا إبتُلي بالبلاء كان أقرب إلى الله سبحانه، وفي ذلك لُطف بالنسبة إليه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
43

لكنهم لم يتضرّعوا وحتى في هذه الحالة ركبوا العناد وسلكوا سبيل اللجاج ((فَلَوْلا))، أي هلّا -وهو كلمة توبيخ- ((إِذْ جَاءهُمْ))، أي جاء تلك الأمم ((بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ)) وخضعوا لله ((وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)) سبب إستمرارهم في الكفر والعصيان فلم تجد الهداية إلى قلبهم سبيلاً ((وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) فرأوا أعمالهم حسنة، ولذا ما تركوها.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
44

((فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ))، أي تركوا ما ذكّرناهم من أوامرنا ولم يعملوا بما دعاهم الرُسُل إليه ((فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ)) من النِعَم حيث قد أقبلت الدنيا عليهم من جميع النواحي، بعد تلك البأساء والضرّاء وذلك لأجل إحتمال إفادة التذكير بالنِعَم حتى يشكروا بارئ النِعَم والمتفضّل ((حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ))، أي بما أعطاهم الله من النِعَم واشتغلوا بالتلذّذ ولم يقبلوا أمر الرُسُل، بل صار ذلك سبباً لزيادة طغيانهم وكفرهم ((أَخَذْنَاهُم)) بالهلاك والنِكال ((بَغْتَةً))، أي فجأة ((فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ)) من بَلَسَ إذا تحسّر، أي إنهم متحيّرون آيسون من النجاة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
45

((فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ)) الدابر الأصل، أي إستوصل وانقطع أصل القوم بسبب العذاب ((وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) الذي أهلك الكفار وأراحَ البلاد والعباد منهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
46

ثم إحتجّ الله على الكفار بحجّة أخرى تدلّ على بطلان أصنامهم وأنّ الأمر لله وحده ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار الذين يُشركون بالله سبحانه ((أَرَأَيْتُمْ))، أي أخبروني، فقد تقدّم أنّ (رأيت) بمعنى أخبرني ((إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ))، أي ذَهَبَ بها فصرتم أصمّ وأعمى((وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم))، أي سَلَبَ عقولكم حتى صرتم لا تعقلون، أو المراد الطبع عليها حتى تبتعد عن الخير ((مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ))، أي بذلك الشيء المأخوذ منكم، فإنهم يعترفون بأنّ الأصنام لا تتمكّن عن إعادة الأشياء المذكورة ((انظُرْ)) يارسول الله ((كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ))، أي نبيّن لهم في القرآن الآيات الدالّة على التوحيد، وتصريف الآيات توجيهها من صرف إذا أرسل (( ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ)) من صَدَفَ بمعنى أعرَضَ، أي يُعرضون عن الحق وعن القائل في الآيات.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
47

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((أَرَأَيْتَكُمْ))، أي أخبروني ((إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ)) بعدما أنذرتُكُم ولم تؤمنوا ((بَغْتَةً)) أو مفاجأة -خُفية- فإنّ الفجأة تلازم الخفية ((أَوْ جَهْرَةً)) علانية بلا فجائة ((هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ)) الكافرون الذين ظلموا أنفسهم والعاصون، والمراد بالهلاك ما يسبّب خسارة الدارَين أما لو كان مؤمن فهلك فإنه لا يخسر إلا الدنيا ويُعوَّض عنها بأ،واع الإنعام، وفي هذا الإستفهام إيقاظ وتنبيه وردع لهم من الظلم، فأيّ أحد يحب أن يهلك إذا أتى العذاب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
48

((وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ)) بالجنة والثواب لمن آمن وأصلح ((وَمُنذِرِينَ)) بالنار والعقاب لمن كفر أو عصى ((فَمَنْ آمَنَ)) بما أمَرَ الله الإيمان به ((وَأَصْلَحَ)) أعماله ((فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) لا في الدنيا ولا في الآخرة، أما في الآخرة فواضح، وأما في الدنيا فلأنّ الخوف والحزن الحقيقيين ما كانا مع الإنقطاع عن العوض والثواب وما أشبهها، وليس المؤمن كذلك فإنه يعلم أنّ ما يصيبه يعقبه الثواب والأجر، وليس المؤمن كذلك فإنه يعلم أنّ ما يصيبه يعقبه الثواب والأجر، ولذا قال الإمام الحسين (عليه السلام) يوم عاشوراء: "هوّنَ ما نَزَلَ بي أنه بعين الله"، والإرتباط بين هذه الآية والآية السابقة واضح فإنّ العذاب لما وُعد به الكفار بيّن إنّ الرُسُل شأنهم التبشير والإنذار.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
49

((وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ))، أي يصيبهم العذاب ((بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ))، أي بسبب فسقهم وخروجهم من طاعة الله سبحانه، ثم لا يخفى أنّ الغالب تفسير الآيات الدالة على العذاب بعذاب الآخرة، مع إنّ الإطلاق خلاف ذلك، فإنّ مَن أعرضَ عن ذكره سبحانه يصيبه العذاب في الدنيا وفي الآخرة، كما قال سبحانه (ومَن أعرَضَ عن ذِكري فإنّ له معيشةً ضنكى) وسببه واضح فإنّ المناهج التي يتّبعها الإنسان مما وضعها غير الله سبحانه لابد وأن تكون منحرفة، وهذا الإنحراف يسبّب الفوضى والإستبداد وما أشبه مما يؤذي الإنسان وينغّص عيشه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
50

إنّ الكفار كانوا يستعظمون كيف يمكن أن يكون إنسان رسولاً بدون أن يكون له مال عريض أو عِلم غيب ذاتي يعينه في أموره وحوائجه، ويرد الله سبحانه عليهم ذلك بأنّ الرسالة لا ترتبط بهذه الأمور وإنما هي هداية ونور ((قُل)) يارسول الله ((لاَّ أَقُولُ لَكُمْ)) أيها الناس ((عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ)) التي يهب لمن يشاء ما يشاء، ومن المعلوم أنه ليس لله سبحانه خزائن بالمعنى المتعارف لدينا، بل خزائنه الأرض والشمس والمعادن وما أشبه، مما تفيض ثروة ومالاً، وفي الحديث القدسي: "إنما خزائني إذا أردت شيئاً أن أقول له كُن فيكون"، والمراد بعدم القبول عدم الوجود، فهو من السالبة بانتفاء الموضوع ((وَلا)) أقول ((أَعْلَمُ الْغَيْبَ)) كما يعلم الله سبحانه، بل إنما أعلم مما يوحى إليّ بإذن الله سبحانه، كما قال عيسى (عليه السلام): (وأنبّئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم)، وفي الآية الكريمة: (لا يظهر على غيبه أحداً إلا مَن ارتَضى من رسول) ((وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ)) كما أنكم تتوقعون أن يكون الرسول مَلَكاً ((إِنْ أَتَّبِعُ))، أي ليس لي شأن ((إلاّ)) أن أتّبع و(إنّ) بمعنى "ما" ((مَا يُوحَى إِلَيَّ)) من الأوامر والنواهي لأجل الإرشاد والإصلاح ((قُلْ)) يارسول الله لهم إنّ مَثَل المؤمن والكافر كمَثَل البصير الذي يبصر الأشياء والأعمى الذي لا يبصر و((هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ))؟ ولعلّ تقديم الأعمى لأنّ الخطاب كان مع الكفار الذين هم بمنزلة الأعمى ((أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ)) في الأمر وأنّ مقام الرسالة لا يرتبط بما ذكرتم من الأشياء.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
51

((وَأَنذِرْ)) يارسول الله ((بِهِ))، أي بالقرآن، فإنه قد تقدّم ذكره بلفظ (ما يوحى إليّ) ((الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ)) والخوف هنا ليس بمعنى الإحتمال، كقولك: أخاف أن يُهدم البناء، بل بمعنى الخوف القطعي فهو كقولك: أخاف من الجلّاد وهو يريد القتل، والمراد بالذين يخافون المعترفون بالبعث، وإنما قال: أنذِر هؤلاء مع إنّ الإنذار عام، لا هؤلاء هم المنتفعون بالإنذار، أما مَن أعرَضَ فلا ينتفع به ((لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ))، أي دون الله تعالى ((وَلِيٌّ)) يلي أمورهم هناك ((وَلاَ شَفِيعٌ)) وليس المراد أنّ الله يشفع إذ لا معنى لشفاعته، بل المراد أنّ الشفاعة بيده، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، كما قال سبحانه: (لا يشفعون إلا لمن ارتضى) ((لَّعَلَّهُمْ)) لكي هؤلاء الذين أنذرتهم ((يَتَّقُونَ)) معاصي الله ويأتمرون بأوامره.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
52

إنّ من يخاف الحساب أنذِرهُ يارسول الله ولا تطرده من عندك وإن طَلَبَ الأشراف ذلك ((وَلاَ تَطْرُدِ)) من مجلسك ((الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ))، أي صباحاً ((وَالْعَشِيِّ)) طرف العصر ((يُرِيدُونَ)) بالدعاء والضراعة ((وَجْهَهُ))، أي ذاته سبحانه خالصاً مخلصاً، وقد ورد أنه مرّ ملأ من قريش على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعنده صُهَيب وخبّاب وبلال وعمّار وسلمان وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يامحمد أرضيتَ بهؤلاء من قومك أفنحنُ نكون تَبَعاً لهم؟ أهؤلاء الذين مَنَّ الله عليهم؟ غطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم إتّبعناك، فنزلت الآية، وفي بعض التفاسير أنه طَعَنَ أولئك الأشراف في سيرة هؤلاء الفقراء وأعمالهم كي يستحيلوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) للنفرة عنهم، فردّ عليهم سبحانه بقوله ((مَا عَلَيْكَ))، أي ليس عليك ((مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ)) فأنت لا تتحمّل تَبِعة سيرتهم ((وَمَا مِنْ حِسَابِكَ))يارسول الله ((عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ)) فإنهم لا يطالبون بحسابك، بل كلٌّ وعمله -فسيرتهم لو كتنت كما يقولون لا تضرّك- ((فَتَطْرُدَهُمْ)) فإنّ الشخص إنما يطرد من تضرّه سيرته، أما مَن كان قلبه عامراً بالإيمان وصلاته دائمة طرفي النهار فإنّ فقره وسيرته لا يوجبان طرده -لو فُرِضَ أنّ في سيرته ميل- ((فَتَكُونَ)) بسبب طردهم ((مِنَ الظَّالِمِينَ)) لهم، أو لنفسك، فإنّ الإنسان إذا ظلم غيره فقد ظلم نفسه أيضاَ، وسيقت هذه الجملة مبالغَةً في ردع مَن طَلَبَ طلرد أولئك.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
53

((وَكَذَلِكَ))، أي هكذا ((فَتَنَّا))، أي إبتلينا ((بَعْضَهُم بِبَعْضٍ)) حيث إبتلينا الأشراف بالفقراء ((لِّيَقُولواْ)) أولئك الأشراف ((أَهَؤُلاء))، أي هل هؤلاء الفقراء ((مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا)) حتى عمّهم النبي بلطفه وجعلهم ندمائه وموضع سرّه؟، نعم ليس الإسلام ينظر إلى الناس كما ينظر أهل الدنيا ((أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ)) إنهم شاكرون والشاكر أفضل من غيره عند الإسلام، وإن كان غيره في نَظَر الناس شريفاً، فإنّ الميزان عند الإسلام التقوى (إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
54

والإسلام لا يسدّ الأبواب للعاصي، وإنما يفتح له باب التوبة، وقد ورد أنّ جماعة جائوا إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقالوا: إنّا أصبنا ذنوباً عِظاماً، فلم يردّ عليهم شيئاً فانصرفوا، فنَزَلَ قوله تعالى ((وَإِذَا جَاءكَ)) يارسول الله ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا))، أي بدلائلنا وبراهيننا ((فَقُلْ)) لهم ((سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ))، أي أنتم في سلام لا في عذاب وعقاب، يُقبل عذركم ويغفر ذنبكم ((كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ))، أي إنه فَرَضَ على نفسه -حسب حكمته- أن يرحم العباد ويشملهم بلُطغه وإحسانه ((أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ)) والمراد من الجهالة هنا ليس الجهل مقابل العلم، بل عدم المبالاة، وإنما سُمّي بذلك لأنّ العالم التارك لعلمه هو والجاهل سواء، وكأنه للجهل بالنتائج والعواقب المرتّبة على العمل، وإلا فالآية تشمل العمل بل هو موردها ((ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ))، أي بعد العمل ((وَأَصْلَحَ))، أي عمل صالحاً ((فَأَنَّهُ))، أي الله سبحانه ((غَفُورٌ)) لذنبه ((رَّحِيمٌ)) به، وكأنّ الإتيان بـ (رحيم) بعد (غفور) غالباً لإفادة الفضل في لُطفه وإحسانه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
55

((وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ))، أي كما سبق نفصّل الأدلة والبراهين الدالة على التوحيد وسائر شؤون المبدء والمعاد، نشرحها ونبيّنها حتى يتّضح سبيل المهتدين ((وَلِتَسْتَبِينَ))، أي تظهر ((سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)) المعاندين، فإنّ في بيان الحق وضوح الأمرين سبيل المحقّ وسبيل المبطل، ولفظة (سبيل) مما يجوز التذكير والتأنيث ولذا قال (تستبين) بالتأنيث.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
56

ثم أمَرَ سبحانه رسوله بالبراءة مما يعبدونه المشركون بقوله ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء المشركين ((إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ)) يعني الأصنام التي كانوا يعبدونها، والمراد بـ (من دون الله) ما خلا عبادة الله، فإنّ النهي أعمّ من عبادة الأصنام وحدها أو بالإشتراك مع عبادة الله، فإنّ عبادة الأصنام إنما أتت من هوى النفس لا من دليل عقلي أو منطقي ((قُل)) يارسول الله لهم ((لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ)) في عبادة الأصنام ((قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا)) إذ أنا فعلتُ ذلك ((وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ)) لو عبدتُ الأصنام.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
57

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ))، أي أمر واضح بيّن لا غموض فيه ((مِّن رَّبِّي))، أي إنّ تلك البيّنة أتتني من جانب الله سبحانه لا مثلكم أتّبع هوى النفس (( وَكَذَّبْتُم بِهِ))، أي بما أنا عليه من الدليل والبيّنة، وقد كان الكفار يطلبون من الرسول -إستهزاءاً- أن يُنزِل بهم العذاب الذي يعدهم، كما قال سبحانه (ويستعجلونك بالعذاب) فردّ عليهم بقوله ((مَا عِندِي))، أي ليس باختياري وأمري ((مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ))، أي الذي تطلبون سرعته ((إِنِ الْحُكْمُ))، أي ليس الحُكم في باب العذاب ((إِلاَّ لِلّهِ)) فهو وحده ((يَقُصُّ الْحَقَّ))، أي يبيّنه ((وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ)) الذي يفصّل الأمور فإذا إقتضت المصلحة أتاكم بالعذاب ويفصّل الأمر وتنتهي المشكلة، ومن المعلوم إنّ إنزال العذاب له مقاييس خاصة وأوقات محدودة، فليس كلّ مَن طَلَبَ العذاب يُجاب فوراً وإن كان من أكثر الناس جُرماً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
58

((قُل)) يارسول الله لهؤلاء الكفار الذين يطلبون سرعة العذاب ((لَّوْ أَنَّ عِندِي))، أي بأمري وإرادتي ((مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ)) من إنزال العذاب بكم((لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)) إذ أُهلِكَكُم فأستريح منكم لكن ذلك بإذن الله ومشيئته ((وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ)) وبمقتضى عمله يقدّم العذاب تارة ويؤخّره أخرى.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
59

وحيث ذكر علمه سبحانه بالظالمين يأتي السياق ليذكر الكافرين بعلمه سبحانه وقدرته وأعماله في أنفسهم وفي الآفاق، إنها أقوى الأدلة على وجوده وسائر صفاته الكمالية وهل بحاجة بعدها إلى الخوارق التي كانوا يقترحونها لإثبات كلامه (عليه الصلاة والسلام) ((وَعِندَهُ))، أي عند الله سبحانه ((مَفَاتِحُ)) جمع مِفتَح بمعنى المفتاح ((الْغَيْبِ))، أي ما غابَ عن الحواس والمشاعر، فكان الغيب قد سُدّت أبوابه وأُقفِلَت الأبواب فلا يتمكن الإنسان أن يرى ما ورائها وليس بيد الله سبحانه وحده، فهو الذي يعلم الغيب كله ويتمكن أن يفتح تلك الأبواب لمن أراد من خلقه، كما قال: (لا يُظهِر على غيبه أحد إلا مَن ارتضى من رسول) ((لاَ يَعْلَمُهَا))، أي لا يدري ما هي تلك المفاتيح ((إِلاَّ هُوَ))، أي إلا الله سبحانه، وحيث أنّ كشف الغيب يحتاج إلى العلم بالكشف والقدرة على الكشف، وكان المقام مقام بيان عمله سبحانه، قال سبحانه (لا يعلمها) فلا يرد أنّ الأنسب أن يقول: لا يقدر عليها، لا أن يقول (لا يعلمها)، فالأرزاق والآجال وما أشبههما التي تأتي في المستقبل لا يعلمها إلا الله سبحانه ((وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ إِلاَّ يَعْلَمُهَا)) المراد بالبَر: الأعمّ من المدن، والبحر: الأعمّ من الأنهار -بقرينة المقابلة- ((وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ)) من أوراق الأشجار ((وَلاَ)) من ((حَبَّةٍ)) كامنة ((فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ))، أي أجوافها، أو لا تسقط حبّة في باطن الأرض مما تُزلاع أو غيره إلا يعلمها، وقد كان التقابل -بين ما تسقط من ورقة وبين ولا حبّة- لطيفاً جداً، حيث إنّ الأول حركة الحياة إلى الموت والسقوط، والثاني حركة الموت إلى الحياة والإرتفاع ((وَلاَ)) من ((رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ)) من جميع الأشياء والأصناف، وهذا وإن كان أخصّ من الموجودات لأنّ من الأشياء ما لا يتّصف برطوبة ولا يبوسة، يبوسة كالعقل، إلا إنّ العموم يشمله بالفحوى، كثيراً ما يُقال اللفظ الأخص ويُراد الأعم، حيث إنّ الأخص صار مثلاً، كقوله (إن تستغفر لهم سبعين مرة) فإنّ الأكثر داخل بالفحوى ((إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ))، أي إنّ جميع الأشياء محفوظة عند الله سبحانه في كتاب واضح جلي هو اللوح المحفوظ، أو المراد بالكتاب علمه الشامل، ولعلّ التعبير بالكتاب لأجل بيان أنه محفوظ لا يزول كما إنّ الكتاب كذلك.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
60

((وَهُوَ)) سبحانه كما يعلم الأشياء كذلك تجري الأشياء بقدرته وإرادته، فأنتم أيها البشر تحت قبضته وأمره، فإنه ((الَّذِي يَتَوَفَّاكُم)) أيها البشر((بِاللَّيْلِ))، أي يقبض أرواحكم عن التصرّف، والتوفّي أخذ الشيء كاملاً ومنه الوفاة، فإنّ الإنسان إذا نام أخَذَ الله روحه المتصرّفة التي تبصر وتسمع وتذوق وتلمس وتشم، وهذه الآية كقوله سبحانه (الله يتوفّى الأنفس حين موتها) وإنما الفرق أنّ الموت توفّي بمعنى أتم من التوفّي بمعنى النوم ((وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم))، أي ما كسبتم وفعلتم، أي عملتم بالجارحة ((بِالنَّهَارِ)) وهذا التفصيل خارج مجرى الغالب، وإلا فهو يتوفّى بالنهار لمن نام فيه، ويعلم ما جَرَحَ الإنسان بالليل لمن عمل فيه ((ثُمَّ)) بعد توفّيكم بالليل ((يَبْعَثُكُمْ))، أي يوقظكم وينبّهكم من نومكم((فِيهِ))، أي في النهار ((لِيُقْضَى))، أي لينتهي ((أَجَلٌ مُّسَمًّى))، أي أمدّكم الذي سمّاه سبحانه في اللوح المحفوظ، يعني إنه إنما يوقظكم في النهار حتى لا يموت الإنسان قبل وقته ((ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ)) بعد تمام المدة وإنتهاء الأمد ترجعون إليه سبحانه في الآخرة، والمراد إلى حسابه، وإلا فليس له سبحانه محل، فإنه منزّه عن الزمان والمكان ((ثُمَّ يُنَبِّئُكُم))، أي يُخبركم -بعد رجوعكم إليه- ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))ليُعطي كلّ ذي جزاء جزاءه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
61

((وَهُوَ)) سبحانه ((الْقَاهِرُ))، أي القادر الذي قهر ويجبر كما يشاء ((فَوْقَ عِبَادِهِ))، أي مستعلي عليهم، فإنّ من يتصرّف في الإنسان يكون فوقه رتبة، وليس المراد الفوقية الحقيقية، فإنه منزّه عن المكان ((وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً)) جمع حافظ، وهم الملائكة الذين يبعثهم الله تعالى لحفظ الإنسان عن العطب، وحفظ أعماله في دفاتر سجلات ليجزي كلّاً حسب ما عمل ((حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)) وصار وقت أن يموت تركه الحافظ له وأسلمه إلى حتفه ((تَوَفَّتْهُ))، أي قبضت روحه كاملة ((رُسُلُنَا))، أي الملائكة المرسلة لأجل هذه الغاية ((وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ)) بأن يقدّموا أخذ الروح أو يؤخروه، أو يشدّدوا في الفزع أو يخفّفوا بل يفعلون ما يُؤمرون، وإنما أتى بلفظ (رُسُلنا) جمعاً لأنّ لمَلَك الموت أعواناً كما ثَبَتَ من السنّة، ولعلّ في قوله (الذين توفّاهم الملائكة) دلالة عليه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
62

((ثُمَّ)) بعدما أخذت الملائكة أرواحهم ((رُدُّواْ))، أي رجعت أرواحهم ((إِلَى اللّهِ))، أي في المكان المهيّأ لهم من قِبَله سبحانه ((مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ))، أي سيّدهم بالحقيقة لا مثل سيادة الأصنام عليهم ((أَلاَ)) فلينتبه الناس أنّ ((لَهُ)) وحده ((الْحُكْمُ)) في جميع الأمور الكونية، حتى قَبَضَ أرواحهم ومحاسبتهم هناك ((وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ)) وحسابه سريع لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه حساب المحاسِبين من الوقت ونحوه، فليس هناك بطوء في الحساب حتى يكون للمحاسِب مجال وسيع حتى يتم حسابه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
63

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار تدليلاً على قدرته سبحانه الكاملة ((مَن يُنَجِّيكُم)) ويخلّصكم ((مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ))، أي من شدائدهما وأهوالهما، فإنهم يقولون لليوم الشديد يوم مظلم، تشبيهاً، فكما إنّ الإنسان لا يهتدي طريقه في الليل والظلمة كذلك لا يهتدي طريقه في الشدائد ((تَدْعُونَهُ))، أي تدعون الله تعالى إذا وقعتم في الشدة والظُلمة ((تَضَرُّعاً)) ضراعة واستكانة بلسانكم ((وَخُفْيَةً)) وسراً في نفوسكم، فتوافق الظواهر والبواطن في الضراعة والمسألة لإنجائه سبحانه إياكم، قائلين ((لَّئِنْ أَنجَانَا)) الله ((مِنْ هَذِهِ)) الشدة والكارثة ((لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)) الذين يشكرون نعمائه علينا معترفين به وبفضله وإحسانه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
64

((قُلِ)) يارسول الله لهؤلاء ((اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا))، أي من هذه الشدة ((وَمِن كُلِّ كَرْبٍ))، أي يخلّصكم من كلّ غمر وهم ((ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ)) به غيره وترجعون إلى شِرككم وعصيانكم كما قال سبحانه (فلمّا نجّاهم إلى البرّ إذا هم يُشركون).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
65

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ))، أي يُرسل ((عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ)) كالصواعق ((أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)) كالخسف((أَوْ يَلْبِسَكُمْ)) من لَبَسَ عليه الأمر إذا خَلَطَ بعضه ببعض، أي يخلطكم ((شِيَعاً)) جمع شيعة، أي فِرَقاَ مختلفي الأهواء لا تكونون أمة واحدة، بل أحزاباً وأهواء ((وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ)) فهم في تعادٍ مستمر وحروب دائمة، وإنما ينسب ذلك إليه سبحانه لأنه يَكِلَهم إلى أمرهم بعد أن أعرضوا عن طريقه وتركوا منهاجه ((انظُرْ)) يارسول الله، والمراد بالنظر التأمّل والتفكّر ((كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ)) نردّد الدلائل على التوحيد ونكرّرها مرة بعد مرة ((لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ))، أي يفهموا الحق ويذعنوا بالخالق ويتجنّبوا عن الكفر والباطل.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
66

((وَكَذَّبَ بِهِ))، أي بما نصرّف من الآيات ((قَوْمُكَ)) يارسول الله، والمراد بهم أما قريش وأما العرب وأما الناس المبعوث إليهم بصورة عامة، والمراد بالتكذيب تكذيب أغلبهم لا جميعهم لوضوح إيمان بعض من كل من الطوائف الثلاث به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين نزول الآية ((وَهُوَ الْحَقُّ))، أي ما نصرّفه من الآيات حق لا مريبة فيه ((قُل)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ))، اي موكول إليّ حتى يضرّني تكذيبكم، بل أنا مبلّغ، وقد بلّغت ما أُمرتُ بتبليغه، ثم بيّن سبحانه أنّ ما أخبر به الرسول من وعيد المكذّبين أنهم خسروا وإنّ تكذيبهم عادَ بالوبال عليهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
67

((لِّكُلِّ نَبَإٍ))، أي لكلّ خبر ((مُّسْتَقَرٌّ))، أي محل إستقرار يظهر هناك صدقه، فما كان في الدنيا يظهر أثره في الدنيا وما كان في الآخرة يظهر أثره في الآخرة ((وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)) أيها المكذّبون عاقبة أمركم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
68

إنّ أول كل حركة لابد وأن يختلط المؤمنون بها والمناوئون لها، ولابد وأن يكون ضعاف النفوس من المؤمنين يكتسبون من المعاندين بعض الأفكار المعادية ولا أقل من أن يجبنوا عن الإستمرار والتظاهر، ولذا فمن اللازم أن يجنّب القادة أتباعهم عن الإختلاط خصوصاً حالة التهجّم من المعاندين ((وَإِذَا رَأَيْتَ)) يارسول الله ((الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا)) خوض المناقشة والإستهزاء، والخطاب وإن كان موجَّهاً إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلا أنه عام لجميع المسلمين ((فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ))، أي فاتركهم ولا تجالسهم ((حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ))، أي غير ما خاضوا فيه أولاً بأن يتكلّموا في سائر المواضيع فلا بأس حينئذ في مجالستهم والتكلّم معهم ((وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ)) بأن ينسى المسلم وجَلَسَ مع الخائضين في آيات الله، والجملة شرطيّة، أي وإن أنساك، و(ما) زائدة، ومن المعلوم أنّ الشرط لا ينافي العصمة، فإنّ الجملة الشرطيّة تأتي حتى مع إستحالة طرفيها نحو (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) ((فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى))، أي بعد التذكّر لكون مجالستهم محرّمة منهيّة ((مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)) الذين يخوضون في الآيات.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
69

((وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ))، أي على المؤمنين المتّقين ((مِنْ حِسَابِهِم))، أي حساب الكفار الخائضين في آيات الله ((مِّن شَيْءٍ)) فإنهم ليسوا بمسؤولين عن خوضهم في الآيات ((وَلَكِن)) قيامهم عن المجالس إذا خاضوا ((ذِكْرَى))، أي تذكير للخائضين بأنهم يعملون شيئاً، وإنما قال (ذكرى) لأنّ الخائض يعلم سوء فعله -في قرارة نفسه- لكنه يغفل غالباً حين الخوص، فأمَرَ المسلم أن يقوم من مجلسه ليتذكّر ((لَعَلَّهُمْ))، أي لكي أن الخائضين ((يَتَّقُونَ)) ويتورعون عن الخوض، روي عن الإمام الباقر (عليه السلام) أنه قال: "لما نزلت (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) قال المسلمون: كيف نصنع إن كان كلّما إستهزء المشركون بالقرآن قُمنا وتركناهم فلا ندخل إذاً المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام، فأنزَلَ الله سبحانه (وما على الذين يتّقون من حسابهم من شيء) أمَرَهم بتذكيرهم وتبصيرهم ما استطاعوا".
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
70

((وَذَرِ))، أي أترك يارسول الله ((الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا)) المراد من دينهم الذي يتديّنون به من عبادة الأصنام، والمسيحية واليهودية وما أشبه، والمراد باتخاذه لعباً ولهواً أنهم كالأطفال الذين يتّخذون آلة للّعب واللهو فلا علاقة لهم بها إلا علاقة التلاعب، لا إنه دين وَصَلَ إلى أعماق قلوبهم وأخَذَ يوجّه حياتهم، وأما دينهم الذي يجب أن يتديّنوا به -أي الإسلام- ونسبه إليهم لأجل وجوب إتّخاذه ديناً، واتّ×أذه لعباً ولهواً، إستهزائهم به كأنه لعب ولهو ((وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا)) زاعمين أنه ليس ورائها شيء وأشغلتهم الدنيا عن الدين ((وَذَكِّرْ)) يارسول الله هؤلاء الكفار ((بِهِ))، أي بالدين ((أَن تُبْسَلَ)) من بَسَلَ بمعنى إستسلم، أي لكي لا تسلّم ((نَفْسٌ)) للهَلَكة ((بِمَا كَسَبَتْ))، أي بسبب عمله، فإنك إن ذكرتَ لعلها تعود إلى الرُشد وتنقذ من الهَلَكة حيث ((لَيْسَ لَهَا))، أي للنفس ((مِن دُونِ اللّهِ))، أي غير الله ((وَلِيٌّ)) ناصر ينصرها ((وَلاَ شَفِيعٌ)) يشفع لها، فإنّ الشفاعة بيد الله وحده ((وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ))، أي تفدي بكل ما يمكن جعله فدية لتُنقذ نفسها من العذاب ((لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا))إذ ليس الميزان هناك إلا العمل وحده ((أُوْلَئِكَ)) الذين إتّخذوا دينهم لعباً ولهواً هم ((الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ))، أي أهلكوا وأُسلموا للهَلَكة (بـ) سبب (ما كسبوا) من الأعمال والعقائد الباطلة ((لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ))، أي مائهم الذين يشربون إنما هو من حميم جهنم وهو الماء المغلي الحار ((وَعَذَابٌ أَلِيمٌ))، أي مؤلم موجع ((بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ))، أي بسبب كفرهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
71

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلا ءالكفار ((أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا))، أي هل ندعو الأصنام التي لا تنفعنا إن عبدناه ((وَلاَ يَضُرُّنَا)) إن تركنا عبادته ((وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا))، أي نرجع القهقري، فإنّ مَن أتى إلى مكان ثم رجع إلى محله الأول كان خاسراً ومَن إتّبع أقسام الرجوع أن يرجع قهقراً والأعقاب جمع عقب ((بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ)) إلى دينه وصراطه ((كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ))، أي إستغوته ((الشَّيَاطِينُ))، أي الغيلان ((فِي الأَرْضِ))، أي في البيداء بأن أخرجته الشياطين من الجادة إلى المهلكة ((حَيْرَانَ)) لا يدري إيتّبع أصحابه أم يتبّع الشياطين ((لَهُ))، أي لهذا الذي إستهوته الشياطين ((أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى)) إلى الجادة وأن لا يتّبع الشياطين قائلين له ((ائْتِنَا))، أي جئنا وكن معنا، فإنّ قسماً من الغول -وهم سَحَرة الجن- يكونون في الصحراء يؤذون بعض المارة، فإذا رأى الشخص جماعة منهم يستهوونه قائلين من هنا الجادة -ويدلّونه إلى المفاوز المهلكة- فهو يتحيّر بين أن يسير مع هذه الجماعة التي تصبغ نفسها بصبغة إدلاء الطريق وأنها من أهل البادية تعرف الطريق من غير الطريق، أم يسير مع رفاقه الذين خرج معهم حيث أنهم رفقائه، لكنهم -بزعمه- يمشون على غير الطريق ويصيبهم العطب أخيراً، وهناك قسم من الناس ينكرون الجن والغول والشيطان لكنه مع ضيق الأُفق فإنّ العلمين القديم والحديث أيّدا الدين والقصص المؤكدة وجود ذلك -أنظر كتاب (على حافة العالم الأثيري) و(دائرة المعارف) لفريد وجدي، مادة (اسبرتزم)- ((قُلْ)) يارسول الله ((إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ)) الذي ينبغي للإنسان أن يتّبعه ويترك غيره ((وَأُمِرْنَا))، أي أمَرَنا الله وأرشدنا العقل ((لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)) في جميع شؤوننا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
72

((وَ)) أمَرَنا ((أَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ))، أي بإقامة الصلاة، فإنّ حذف حرف الجر، مع إنّ وأن مطرد شائع، كما قال إبن مالك:



والخوف مع إنّ وأن يُطرد      مع أمن لبس كعجبتُ أن يدو



((وَاتَّقُوهُ))، أي إحذروا عقاب الله تعالى ((وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ))، أي تجمعون يوم القيامة ليحاسبكم على ما عملتم من خير أو شر.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
73

((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) والمراد بالسماوات أما إجرام هناك أو المدارات للكواكب ((بِالْحَقِّ))، أي ليس بالباطل فإنّ مَن يصنع شيئاً قد يصنعه عبثاً وباطلاً وقد يصنعه لغاية وحكمة، فمعنى (بالحق) أنه ليس الخلق عبثاً، كما قال سبحانه (سبحانك ما خلقتُ هذا باطلا)((وَيَوْمَ يَقُولُ)) سبحانه لشيء ((كُن)) وأخرج من العدم إلى الوجود ((فَيَكُونُ)) ويوجد ((قَوْلُهُ الْحَقُّ)) الظاهر أنه العامل في (يوم)، أي إنّ قوله تعالى يكون ويتحقّق في أي يوم قال لشيء (كُن) فهو سبحانه خلقه بالحق، وقوله (حق) أي متحقّق ثابت لا خلف فيه وليس كأقوال من تذهب أقواله باطلة ((وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ)) الصور هو الآلة التي يُنفخ فيها لأجل هلاك الناس جميعاً، وهو في آخر يوم من أيام الآخرة، يعني أنه سبحانه الملك الوحيد الذي لا يوجد ملك غيره في ذلك اليوم، والفقرات الثلاثة في الآية لبيان الأحوال الثلاثة: الخلق للأشياء، والتصرّف في الكون بما يشاء، وكون المعادلة له سبحانه، وهو ((عَالِمُ الْغَيْبِ))، أي يعلم ما غاب عن الحواس لعدم إدراك الحواس له أو لكونه من الأمور المستقلة ((وَالشَّهَادَةِ))، أي ما يشاهده الناس، وأتى بهذه الجملة هنا ليتناسق العلم مع القدرة ((وَهُوَ الْحَكِيمُ))في أفعاله ((الْخَبِيرُ)) بالأشياء فلا يعمل شيئاً إعتباطاً وعبثاً.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
74

وبعد ما بيّن سبحانه الأدلة حول التوحيد، أتى بقصة إبراهيم (عليه السلام) الذي كان يدعو إلى التوحيد ليمثّل الأدلة في قصة حوارية جذّابة ((وَ)) اذكر يارسول الله ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ)) والمراد بالأب هنا العم كما ورد، فإنّ العرب تسمّي العم أباً، كما تسمّي الخالة أماً، وقد ورد في زيارة الشهيد علي الأكبر (عليه السلام): السلام عليك يابن الحسن والحسين" ((أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً)) على وجه الإستنكار والتوبيخ، أي كيف تعبد الأصنام وتجعلها إلهاً من دون الله ((إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ))، أي واضح فإنّ الإله يجب أن يكون خالقاً رازقاً فكيف تكون الأصنام آلهة؟.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
75

((وَكَذَلِكَ))، أي بمثل هذه الفطرة المستقيمة التي رأى بها إبراهيم بطلان عبادة الأصنام ((نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ))، أي آثار الملك الموجودة في المساوات والأرض من الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والأشجار والدواب وغيرها، مما تدلّ كلها على وجود إله حكيم عليم خالق قادر، وإنما نَسَبَ الإرائة إلى نفسه تعالى لأنه هو الذي فَتَقَ بصيرة إبراهيم (عليه السلام) للتأمّل في الآيات الكونية، وفي الأحاديث أنه (عليه السلام) كان يرى أغوار الأرض وآفاق السماء فقد كُشف عن عينه الحجاب وكان يرى ما لا يدركه البصر الإنساني ((وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ))، أي المتيقّنين بأنّ الله سبحانه هو الخالق والإله أريناه الملكوت، فجملة (وليكون من الموقنين) مستأنفة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
76

إنّ إبراهيم (عليه السلام) إصطدم بأصناف ثلاثة يعبدون من دون الله الكواكب: فكان بعضهم يعبدون الزُهرة، وبعضهم يعبد القمر، وبعضهم يعبد الشمس، فأراد الإحتجاج عليهم فلما جنّ عليه الليل رأى الزُهرة فقال لعُبّادها مستنكراً: هل هذا ربي؟، ثم ردّ عليهم بأنه أفَلَ ذاهب متحرّك، وهذه من شأن المخلوق لا الخالق فإنّ الخالق لا يتغيّر ولا يتحرّك، وبعد ما طلع القمر قال لعُبّاده على وجه الإستنكار: هل هذا ربي؟، ثم احتجّ عليهم بما احتجّ على عبادة الزُهرة، وبعدما طلعت الشمس قال لعُبّادها على وجه الإستنكار: هل هذا ربي؟، ثم أبطَلَ ألوهيّتها بما سبق وبيّن أنّ إلهه هو الله وحده لا شريك له ((فَلَمَّا جَنَّ))، أي أظلم ((عَلَيْهِ اللَّيْلُ)) وستر بظلامه كل شيء ((رَأَى)) إبراهيم (عليه السلام) ((كَوْكَبًا)) وجماعة يعبدونه ((قَالَ)) مستنكراً عليهم: هل ((هَذَا رَبِّي))؟ ((فَلَمَّا أَفَلَ)) وغَرَبَ النجم ((قَالَ)) إبراهيم ((لا أُحِبُّ الآفِلِينَ))، أي لا أحب أن أتّخذ الشيء الذي يغرب إلهاً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
77

((فَلَمَّا رَأَى)) إبراهيم (عليه السلام) ((الْقَمَرَ بَازِغًا))، أي طالعاً منيراً وجماعة يعبدونه ((قَالَ)) مستنكراً عليه: هل ((هَذَا رَبِّي))؟ ((فَلَمَّا أَفَلَ))وغَرَبَ القمر ((قَالَ)) إبراهيم على سبيل التعريض بأولئك ((لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي)) إلى الطريق المستقيم ((لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)) الذين ضلّوا الطريق واتّخذوا آلهة باطلة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
78

((فَلَمَّا)) أصبح إبراهيم (عليه السلام) و((رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً)) طالعة وجماعة يعبدونها ((قَالَ)) مستنكراً عملهم طاعناً في حجّتهم: هل ((هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ))؟ فكأنهم كانوا يستدلّون بكبرها على أنها الرب دون سواها ((فَلَمَّا أَفَلَتْ)) الشمس وغَرَبَت ((قَالَ)) إبراهيم (عليه السلام) ((يَا قَوْمِ))العبّاد لغير الله تعالى ((إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ))، أي ما تجعلونه شريكاً سبحانه من الكواكب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
79

((إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ)) والمراد بالوجه الذات، لكن حيث إنّ الإنسان حينما يُخلص لشيء ويريد إستقباله يوجّه صورته إليه، إستعمل الوجه في الذات مجازاً ((لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ))، أي خلقها وأوجدها ((حَنِيفًا))، أي مائلاً عن الشرك إلى الإخلاص ((وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))الذين يُشركون بالإله غيره.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
80

ولما باعث وجادَلَ إبراهيم حول الأصنام والكواكب التي يعبدونها قومه فَشى أمره فجاء إليه الناس يحاجّونه ((وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ))، أي خاصموه وجادلونه في باب الألوهيّة ((قَالَ)) إبراهيم ((أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ))، أي تجادلونني بالنسبة إلى الله تعالى ((وَقَدْ هَدَانِ)) إلى الحق بلُطفه وإحسانه((وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ))، أي لا أخاف من إلهتكم أن يسبّبوا لي ضرراً فإنه ليس الصنم والنجم يضرّان الإنسان ((إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا))، أي ضرراً بي، والإستثناء المنقطع، وقد مرّ سابقاً أنّ هذه الإستثناءات إنما هي لأجل إفادة تمام الطلب بعد جعل المستثنى منه الإطلاق، فالأصل مثلاً، ولا أخاف ضرراً إلا من الله سبحانه، ولستُ أعلم ما يشاء ربي من ضرري أو نفعي بل ((وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا))، أي إنه سبحانه المحيط على الأشياء بعلمه الواسع واطّلاعه الشامل ((أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ)) أيها المشكرون وتتدبّرون لتعرفوا أنّ الأمر كما قلتُ لكم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
81

((وَكَيْفَ أَخَافُ)) أنا المعتقد بالله سبحانه الضرر من قِبَل ((مَا أَشْرَكْتُمْ)) من الأصنام والنجوم وهي ليست من الضرر والنفع ((وَ)) الحال إنكم((لاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ)) الذي بيده كلّ ضرر ونفع ((مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا))، أي جعلتم لله النجوم والأصنام التي لم يدلّ دليل من قِبَل الله سبحانه على صحّتها، فإنّ (ما) موصولة مصداقها: الأصنام والنجوم ((فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ)) نحن أو أنتم ((أَحَقُّ بِالأَمْنِ)) بأن لا يخاف الضرر ((إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ))، أي تستعملون عقولكم وعلومكم فيخيّرون الحق من الباطل؟؟.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
82

ثم بيّن سبحانه من لهم الأمن بقوله ((الَّذِينَ آمَنُواْ)) بالله تعالى ((وَلَمْ يَلْبِسُواْ))، أي لم يخلطوا ((إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ)) بأن لم يُشركوا، فإنّ الشرك ظُلم كما قال سبحانه (لا تُشرك بالله إنّ الشرك لظلمٌ عظيم) ((أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ)) فإنهم لا يخافون عقاب الآخرة ولا ضرر دنيا بلا عوض ((وَهُم مُّهْتَدُونَ))، أي مهديّون إلى الحق، وهذه الآية وإن كان موردها قصة إبراهيم (عليه السلام) والإيمان والشرك إلا أنها عامة تشمل كل إيمان لم يلبَس بظُلم، ولذا ورد في مصداقها الولاية لأهل البيت (عليهم السلام).
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
83

((وَتِلْكَ)) الحجّة التي إحتجّ بها إبراهيم (عليه السلام) في ما سبق ((حُجَّتُنَا))، أي الدليل الذي ((آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ)) أعطيناها لإبراهيم (عليه السلام) ولقيناه إياها ((عَلَى قَوْمِهِ)) المشركين حتى تمكّن من إيرادها عليهم وأن يغلبهم ((نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء)) كما رفعنا إبراهيم (عليه السلام) درجات حيث كان مؤمناً موحّداً مجاهداً ((إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)) فبحسب حكمته البالغة يرفع الدرجات وبحسب علمه الشامل يعلم الأشياء.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
84

((وَوَهَبْنَا لَهُ))، أي لإبراهيم (عليه السلام) ((إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ)) إسحاق هو إبن إبراهيم من سارة، ويعقوب إبن إسحاق (عليهم السلام)، ولم يذكر إسماعيل وهو إبنه من هاجر لإرادة ذِكره مستقلاً حتى يُظهِر له الشأن ما لا يظهر لو أُدرج في جملة (وهبنا) وقد ذَكَرَ سبحانه الشجرة النبوية من إبراهيم (عليه السلام) ومن نوح (عليه السلام) وقد أُدرجا درجاً، وإن كان سابقاً، لكونه من الأنبياء أولي العزم فلا يفوت ذكره حيث يُذكرون ((كُلاًّ)) من الثلاثة ((هَدَيْنَا)) إلى الحق وإلى صراط مستقيم ((وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ)) هؤلاء ((وَمِن ذُرِّيَّتِهِ))، أي من ذرّية إبراهيم أو من ذرّية نوح (عليه السلام) أو المراد كلاًّ منهما، فإنه يجوز ذلك بإرجاع الضمير إلى كل واحد كما قال سبحانه (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه) ((دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ)) وهو إبن داود ((وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ)) إبن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ((وَمُوسَى)) بن عمران((وَهَارُونَ)) أخو موسى (عليه السلام) ((وَكَذَلِكَ))، أي هكذا يجعل النبوّة في ذريته -تكريماً له- ((نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)) الذين يُحسنون في أعمالهم فإنّا نكرمهم بما يستحقون.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
85

((وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى)) إبن زكريا ((وَعِيسَى)) بن مريم ((وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ))، أي إنّ كل واحد من الذين أصلحوا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
86

((وَإِسْمَاعِيلَ)) بن إبراهيم (عليه السلام) جد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن المحتمل أن يُراد به إسماعيل صادق الوعد الذي أُشير إليه في قوله سبحانه (واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد) ((وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ)) بن متّى صاحب الحوت ((وَلُوطًا)) والكلام في اللام في اليسع، والمنصرف وغير المنصرف من الأسماء مرتبط بالمفصّلات ((وَكُلاًّ))، أي كلّ واحد منهم ((فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ))، أي عالمي زمانهم فإنّ كلّ نبي كان أفضل من جميع الناس باستثناء النبي الذي في عهده، فـ (لوط) كان في عهد إبراهيم ولم يكن أفضل منه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
87

((وَ)) كذلك فضّلنا جماعة ((مِنْ آبَائِهِمْ))، أي من آباء هؤلاء الأنبياء ((وَذُرِّيَّاتِهِمْ))، أي أولاد هؤلاء الأنبياء ((وَإِخْوَانِهِمْ))، أي أخوان هؤلاء الأنبياء ((وَاجْتَبَيْنَاهُمْ))، أي إصطفيناهم واخترناهم للرسالة ((وَهَدَيْنَاهُمْ)) إلى الحق وذلك لا يلازم سبق الضلالة كما لا يخفى ((إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) في كل شيء العقيدة والسلوك والقول.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
88

((ذَلِكَ)) الهدى الذي هدينا به الأنبياء ((هُدَى اللّهِ)) وإرشاده الذي يأتي بأكمل السعادة وأوفر الخير ((يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ)) والمراد أما الهدى الخاص، ومن المعلوم أنه لا يلزم في الحكمة بالنسبة إلى كل أحد، وأما الهدى العام وذلك وإن لزم بالنسبة إلى كل أحد لكن المراد هنا الإيصال إلى المطلوب لإرائة الطريق، أو يُقال إنّ الذي دلّ عليه الدليل إنّ العقاب لا يجوز بلا بيان، أما الهداية فلا دليل عقلي على إيجابها بالنسبة إلى كل أحد، نعم في لزوم خروج الخلق عن العبث يلزم الإرشاد في الجملة ((وَلَوْ أَشْرَكُواْ))، أي لو أشرك هؤلاء الأنبياء((لَحَبِطَ))، أي باطل ((عَنْهُم)) فإنّ الحبط لما أُشرب معنى الزوال والذهاب عدّى بـ (عن) ((مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) من الأعمال السابقة على الشرك، ثم إنّ الآية في مقام بيان أنّ الشرك موجب لحبط الأعمال مهما كانت سوابق الشرك، إذ من المعلوم الضروري عدم شرك الأنبياء، فإنّ الشرط يأتي حتى في مستحيل الطرفين، كقوله (قُل إن كان للرحمن وَلَداً فأنا أول العابدين)، ومن هذا القبيل قوله (لئن أشركتَ ليحبطنّ عملك).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
89

((أُوْلَئِكَ)) الذين ذكرناهم من الأنبياء هم ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ))، أي أعطيناهم ((الْكِتَابَ)) المراد به الجنس ((وَالْحُكْمَ))، أي منصب الحكم بين الناس، فإنّ هذا المنصب ليس إلا الله ولمن أعطاه إياه ((وَالنُّبُوَّةَ)) حيث كانوا أنبياء، وذَكَرَ النبوّة بعد الكتاب لدفع توهّم أنّ إعطاء الكتاب ليس من قبيل إعطاء الكتاب للإسم، كقوله سبحانه (خذوا ما آتيناكم بقوة) ((فَإِن يَكْفُرْ بِهَا))، أي بالكتاب والحُكم والنبوّة ((هَؤُلاء)) الكفار الذين جحدوا نبوّتك يارسول الله ((فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا))، أي بالإيمان بها، والمراد إيكال أمر دعاية النبوّة والإيمان بها والجهاد في سبيلها كالوكيل الذي يراعي أمور الموكل (( قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ)) فهم يقومون بواجب أمر النبوة خير قيام.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
90

((أُوْلَئِكَ)) الأنبياء الذين سبق ذِكرهم ((الَّذِينَ هَدَى اللّهُ))، أي هداهم الله، والتكرار هنا تقدمة لقوله سبحانه ((فَبِهُدَاهُمُ)) يارسول الله ((اقْتَدِهْ)) في إسلوب الدعوة والصبر على الأذى والإهتمام بالأمر، وهذا كتسلية للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلماع إلى أنّ الأنبياء السابقين إبتلوا بما إبتلى به، بالإضافة إلى أنّ الإقتداء بهم في هدى الله سبحانه لا فيما من عند أنفسهم، حتى يُقال: كيف يؤمن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإقتداء بمن هو دونه في الفضيلة، إنه قيام بالوظيفة لأمر الله سبحانه ولحسابه الخاص، فالأجر منه وحده ((قُل)) يارسول الله لمن تبلغهم ((لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي لا أطلب منكم على تبليغ الرسالة وأداء الوحي ثمناً وأجرة ((إِنْ هُوَ))، أي ما تبليغ الوحي ((إِلاَّ ذِكْرَى))، أي تذكيراً ((لِلْعَالَمِينَ)) الذين هم في زماني وبعد زماني، وكونه تذكيراً باعتبار ما أودع في الإنسان من الفطرة الدالة على توحيده سبحانه، وهنا سؤال: أنه كيف يمكن الجمع بين هذه الآية وبين قوله (ما أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى)؟، والجواب: إنّ إطلاق الأجر على المودّة مجاز، وقد كان ردّ الناس لهم لصالح الناس حيث أنهم الهداة المصلحون.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
91

وحيث ذَكَرَ سبحانه أنه أعطى الأنبياء الكتاب، ردّ على مَن زَعَمَ أنه سبحانه لم يُنزل كتاباً، فقد ورد أنّ حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال له النبي: "أُنشدك بالذي أنزل التوراة أنّ لله سبحانه يبغض الحبر السمين -وكان اليهودي سميناً-"، فغضب وقال: ما أنزل الله على بشر من شيء، فقال له أصحابه: ويحك ولا موسى؟ ف،زل الله هذه الآية ((وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ))، أي ما عظّموه سبحانه حقّ تعظيمه الذي يليق به ((إِذْ)) نسبوا إليه الكذب فـ ((قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ))، أي لم ينزل على رسول كتاباً من السماء، كما قال ذلك اليهودي، إنّ معنى عدم إرسال الرُسُل وإنزال الكتب أنّ الله خَلَقَ الخلق عبثاً واعتباطاً، ومن المعلوم أنّ نسبة العبث إلى شخص عادي موجبة لإهانته وعدم تقديره، فكيف بالله الحكيم والعليم؟ ((قُلْ)) يارسول الله لإبطال كلامهم فـ ((مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى)) (عليه السلام)، أليست التوراة من إنزال الله تعالى؟، وإنما ذَكَرَها لكون طرف الكلام يهودياً ((نُورًا وَهُدًى))، أي في حال كون كتابه (عليه السلام) نور يهدي الناس إلى مناهج الحياة الصحيحة، وهداية ((لِّلنَّاسِ)) إلى الحق ((تَجْعَلُونَهُ))، أي تجعلون ذلك الكتاب((قَرَاطِيسَ))، أي تكتبونه، وهذا لزيادة التأكيد، أي: فكيف تنكرون ما تلقّيتموه أنتم بالقبول وكُنتم تكتبونه في القرطاس، باعتبار أنه كتاب سماوي مُنزَل من عند الله سبحانه ((تُبْدُونَهَا))، أي تُظهرون بعضها حيث كانوا يكتبون بعض الأحكام الموجودة في التوراة في أوراق ويعطونها بيد الناس ((وَتُخْفُونَ كَثِيرًا)) من التوراة لأجل كونها خطراً على مادياتهم أو جاههم، أو فيه الدلالة على الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَعُلِّمْتُم)) أيها اليهود ببركة التوراة المنزلة على موسى ((مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ)) فإنكم لولا كتاب الله المنزَل لم تكونوا تعلمون أشياء، فكيف تنكرون إنزال الله الكتاب، وتقولون (ما أنزلَ الله على بشرٍ من شيء)؟ ((قُلِ)) يارسول الله ((اللّهُ)) نزّل الكتاب على موسى ((ثُمَّ ذَرْهُمْ))، أي دعهم ((فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)) فهم وما خاضوا فيه من الباطل والكذب أنهم يلعبون بالدين فذرهم وما هم فيه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
92

((وَ)) كما أنزلنا الكتاب على موسى كذلك ((هَذَا)) القرآن ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ)) إليك يارسول الله ((مُبَارَكٌ)) يوجب البركة والسعادة ((مُّصَدِّقُ))الكتاب ((الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ))، أي قبله من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، ومن المعلوم أنّ تصديق أصل الكتاب لا يلازم تصديق التحريفات التي طرأت عليه ((وَلِتُنذِرَ)) يارسول الله ((أُمَّ الْقُرَى))، أي مكة، وإنما سمّيت بها لأنّ الأرض دُحيت من تحتها ((وَمَنْ حَوْلَهَا)) من سائر أهل الأرض ((وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) من أهل الكتاب وغيرهم ((يُؤْمِنُونَ بِهِ))، أي بالقرآن المنزَل عليك، فإنّ الإيمان بالآخرة يوجب خوفاً في القلب، ينبعث منه إتّباع الحق أينما وُجد، وفيه تعريض بمن لا يؤمن من أهل الكتاب، فإنه غير مؤمن بالآخرة ((وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) فيؤدّونها لأوقاتها، فمن يترك الصلاة ليس بمؤمن بالآخرة والقرآن وإن ادّعى الإيمان.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
93

وحيث كان الكلام حول الوحي، ومن قال بعدم الوحي إطلاقاً، ناسَبَ ذلك التنديد بمن قال بالوحي كذباً ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا))نزلت في إبن أبي سرح الذي إستعمله عثمان على مصر وقد هَدَرَ رسول الله دمه وكان حسن الخط من كتّاب الوحي فإذا قال له الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "أُكتُب أنّ الله عزيز حكيم" كَتَبَ: إنّ الله عليم حكيم، وهكذا، وكان يقول للمنافقين: إني أقول من نفسي مثل ما يجيء به، ثم ارتدّ كافراً إلى مكة وصار من الطلقاء يوم فتح مكة، ثم لا يخفى أنّ قوله (ومَن أظلم) على سبيل الحصر الإضافي كقوله (ومَن أظلم ممن مَنَعَ مساجد الله)، وغيره ((أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ)) كمسيلمة الكذابة الذي إدّعى النبوة كذباً، وكغيره ممن ادّعى هذا المنصب بالإفتراء نحو ((وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ)) من الآيات أو الأحكام، في المجمع قيل المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسو الله ذات يوم: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين" إلى قوله (فنبارك الله أحسن الخالقين) فأملاه عليه وقال هكذا أُنزل فارتدّ عدو الله وقال: لئن كان محمد صادقاً فلقد أوحيَ إليّ كما أوحي إليه ولئن كان كاذباً فلقد قلتُ كما قال ((وَلَوْ تَرَى)) يارسول الله((إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ))، أي في شدائد الموت عند النزع، كأنّ الموت بشدائده يغمرهم مرة فمرة، كما يغمر الماء الغريق((وَالْمَلآئِكَةُ)) القابضة لأرواحهم ((بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ)) لقبض أرواحهم بأبشع الوسائل يضربون وجوههم وأدبارهم قائلين لهم ((أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ))من أجسادكم، وهذا للإذلال والإهانة، وإلا فليس خروج أنسفهم بإمكانهم بل بقدرة الله تعالى ((الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ)) أيها الظالمون ((عَذَابَ الْهُونِ))فإنه ليس عذاباً جسدياً فقط بل معه ذلّة وهوان ((بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ))، أي جزائكم بعذاب الهون بسبب مقالكم المكذوب على الله حيث كنتم تقولون: أوحيَ إليكم، ولم يوحَ إليكم، ومعنى (على الله) أي بالنسبة إليه سبحانه ((وَ)) بما ((كُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ)) ودلائله((تَسْتَكْبِرُونَ)) فلا تخضعون لأحكامه وأنبيائه، وجواب (لو) محذوف للتهويل، أي لو رأيت ذلك لرأيت أمراً فظيعاً مريعاً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
94

وهنا يوجّه الباري سبحانه كلامه إليهم ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا)) أيها الظالمون ((فُرَادَى))، أي في حال كونكم وحداناً لا مال لكم ولا مُدافِع بل واحداً واحداً ((كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) حين جئتم إلى الدنيا ((وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ))، أي ما أعطيناكم من المال والاقرباء والخدم ((وَرَاء ظُهُورِكُمْ)) في دار الدنيا، فإنّ الإنسان باعتبار إقباله إلى الآخرة تكون الدنيا وراء ظهره ((وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ)) الذين إتّخذتموهم لأنفسكم شفعاء يشفعون لكم يوم القيامة ((الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء))، أي الأصنام التي كان المشركون يزعمون أنها شركاء الله سبحانه في الخلق والرزق وقضاء الحوائج، وقد كان المشركون يقولون: إنّ هذه الأصنام تشفع لنا يوم القيامة، ورد أنّ سبب نزول هذه الآية أن ّ النضر قال: سوف يشفع لي الّلات والعزّى ((لَقَد تَّقَطَّعَ)) أيها الظالمون ((بَيْنَكُمْ)) وبين الأصنام فلا مواصلة تنفع للشفاعة ((وَضَلَّ عَنكُم))، أي ضاع وتلاشى ((مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ)) من الآلهة المزعومة فلا تجلب نفعاً ولا تدفع خيراً.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
95

إنّ أصنامكم لا تشترك مع الله في الخلق ولا في أيّ شيء من الشؤون بل ((إِنَّ اللّهَ)) وحده ((فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى))، أي يشقّ الحبة اليابسة الميتة ويُخرج منها النبات ويشقّ النوات للتمر فيُخرج منها النخل ((يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) فالنبات حيّ يُخرجه من الحبّة التي لا حياة فيها، والفرخ حيّ يُخرجه من البيض الميت، والولد الحي يُخرجه من الأم الميتة، والبعوض وأشباهه يُخرجه من الماء الميت، وهكذا ((وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ)) كالحبّة من النبات، والبيض من الدجاج، والجنين الميت من الأم الحية، والفضلات الميتة من الحي، وكأنّ التغيّر في العبارة (يُخرج) و(مُخرج) للتفنّن في العبارة الذي هو نوع من أنواع البلاغة ((ذَلِكُمُ اللّهُ))، أي ذلك الذي يضع كل ذلك -أيها البشر- هو الله وحده ((فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ))، أي تصرفون عن الحق إلى الباطل.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
96

((فَالِقُ الإِصْبَاحِ))، أي يشقّ عمود الصبح عن ظُلمة الليل ويُخرج الضياء من الظُلمة ((وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا)) تسكنون فيه وتهدئون عن العمل إذا أظلم ((وَ)) جعل ((الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا)) تجريان في أفلاكهما بحساب دقيق، وحسبان مصدر، وكونهما حُسباناً أي مصدري حساب وتوقيت، نحو زيد عدل، مما حمل المصدر على الذات مبالغة، فمن الشمس تتولّد الأيام، ومن القمر تتولّد الشهور والأعوام ((ذَلِكَ))المذكور من فلق الإصباح وجعل الليل سَكَناَ والشمس والقمر حُسباناً ((تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ)) في سلطانه ((الْعَلِيمِ)) بمصالح العباد، فأيّ شيء يرتبط بأصنامكم أيها الضالون.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
97

((وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ)) أيها البشر ((النُّجُومَ)) في السماء ((لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)) فإنّ الإنسان يعرف طريقه من النجم في الليالي فمن قَصَدَ مدينة نحو المشرق جعل النجم المشرقي أمامه، ومن قَصَدَ مدينة نحو المغرب جعله خلفه، وهكذا ((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ)) الدالة على الخالق وصفاته ((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))، أي لهم علم ومعرفة بالأوضاع.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
98

((وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم))، أي خلقكم وأبدعكم ((مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ)) هي آدم (عليه السلام) ومن فضل طينته خُلقت حواء (عليها السلام)، إنه سبحانه القادر لمثل هذا الأمر العظيم ((فَـ)) لكم ((مُسْتَقَرٌّ)) في بطون الأمّهات ((وَمُسْتَوْدَعٌ)) في أصلاب الآباء، وإنما سمّي ذلك مستودعاً لأنّ المني يبقى قليلاً في الصُلب حتى ينزل فهو أشبه بالوديعة ((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ))، أي الأدلة والحجج ((لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ))، أي يفهمون الأدلة كي يعلمون أنّ الله سبحانه هو الذي صنع كل ذلك.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
99

((وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء)) هو المطر، والمراد بالسماء جهة العلو، فإنّ كلّ ما عَلاك فأظلّك فهو السماء -في لغة العرب- ((فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ))، أي أخرجنا بسبب الماء نبات كلّ شيء قابل للإنبات من مختلف أقسام النباتات ((فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ))، أي من الماء، والتكرار لأنه أجمل أولاً، ثم أُريدَ التفصيل، أو الضمير عائد إلى النبات فإنّ النبت أولاً ليس أخضر وإنما أبيض صغير ثم يصير أخضر ((خَضِرًا))هو بمعنى أخضر، أي نُخرج من ذلك زرعاً رُطَباً أخضر ((نُّخْرِجُ مِنْهُ))، أي من ذلك الزرع الأخضر ((حَبًّا مُّتَرَاكِبًا)) قد تركّب بعضه على بعض كحبّ الحنطة والشعير ((وَ)) يُخرج ((مِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا)) بدل (من النخل) ((قِنْوَانٌ))، أي أعذاق الرُطَب، فإنّ قنوان جمع قنو -بكسر القاف وضمها- وهو العِذق -بالكسر- ((دَانِيَةٌ))، أي قريبة التناول ((وَ)) أخرجنا منه ((جَنَّاتٍ))، أي بساتين ((مِّنْ أَعْنَابٍ)) جمع عنب ((وَ))أخرجنا منه ((الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ))، أي شجرتيهما ((مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)) فبعض الأشجار والأثمار والأوراق والأزهار والحبّات متشابهة وبعضها غير متشابهة في اللون والطعم والحجم والخاصّيّة وغيرها، والإختلاف بين لفظي (مشتبه ومتشابه) من أحسن أنواع البلاغة لتطابق اللفظ والخارج ((انظُرُواْ)) أيها الناس ((إِلِى ثَمَرِهِ))، أي ثمر كل واحد من المذكورات ((إِذَا أَثْمَرَ)) فإنّ في ذلك دلالة عجيبة على الصانع تعالى ((وَ)) أنظروا إلى ((يَنْعِهِ))، أي نُضجه إذا نضج، فإنّ من نَظَرَ تأمّل واعتبار، عرف عظيم وجليل الخلقة ودقيق الحكمة، و(ينع) في اللغة بمعنى النضج وقيل جمع يانعكصحب وصاحب ((إِنَّ فِي ذَلِكُمْ))، أي فيما تقدّم من الخلقة ((لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)) بالحقائق ويتجنّبون السخافة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
100

إنّ الله هو خالق كل شيء وهو الإله الوحيد الذي لا شريك له ((وَ)) لكن الكفار ((جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ)) فقالوا بأنّ لله شركاء في الإلوهيّة هم من الجن ((وَ)) الحال أنه سبحانه هو الذي ((خَلَقَهُمْ))، أي خَلَقَ الجن، فكيف يكون المخلوق شريكاً مع الخالق في الإلوهيّة ((وَخَرَقُواْ))، أي جعلوا، ولا يخفى ما في التعبير بلفظ (خَرَقوا) من اللطافة ((لَهُ)) تعالى ((بَنِينَ وَبَنَاتٍ)) فقد قال اليهود عزير إبن الله، وقالوا: نحن أبناء الله، وقالت النصارى: المسيح إبن الله، وجعل المشركين الملائكة بنات الله كما قال سبحانه (وجَعَلوا الملائكة الذين هم عِباد الرحمن إناثاً)((بِغَيْرِ عِلْمٍ)) فإنّ ذلك منهم كان ظنّاً ووهماً ((سُبْحَانَهُ)) منصوب بفعل محذوف، أي أنزّهه تنزيهاً له ((وَتَعَالَى))، أي تقدّس وترفّع ((عَمَّا يَصِفُونَ))، أي الأوصاف التي يلصقونها بساحة قدسه، من جعل الشريك والأولاد.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
101

إنه وحده هو ((بَدِيعُ))، أي مبدع ((السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ)) وخالقهما بلا شريك أو ظهير، وهذا ردّ على مَن جَعَلَ له شريكاً ((أَنَّى))، أي كيف((يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ)) الحال أنه تعالى ((لَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ))، أي زوجة، وهذا رد لمن جَعَلَ له أولاداً ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) فهو الخالق المطلق ((وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) فهو العالم المطلق.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
102

((ذَلِكُمُ))، أي ذلك المذكور له الصفات المتقدّمة هو ((اللّهُ)) تعالى و(كُم) للخطاب إلى السامعين ((رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)) فلا شريك له ((خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)) فلا شيء خارج من خلقه حتى يكون له شريكاً ((فَاعْبُدُوهُ)) وحده ((وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ))، أي حفيظ ومدبّر وقائم فلا حافظ غيره ولا قائم بالأمر أحد سواه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
103

((لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ)) فإنه سبحانه ليس بجسم حتى يكون مرئياً، وهذا لا فرق فيه بين الدنيا والآخرة، فهو لا يُبصر في الدنيا ولا يُبصر في الآخرة ((وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ)) روعي في الكلام التجانس اللفظي وإلا فهو يدرك كل شيء الأبصار وغيرها ((وَهُوَ اللَّطِيفُ)) لا يُراد به اللُطف بالمعنى في الأجسام، المراد به النافذ في الأجسام والرقيق وما أشبه، بل من باب: خُذ الغايات واترك المبادئ، فعلمه نافذ في الأشياء وقدرته سارية في الأكوان ((الْخَبِيرُ)) العالم بكل شيء.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
104

((قَدْ جَاءكُم)) أيها البشر ((بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ)) بصائر، جمع بصيرة وهي الدلالة البيّنة التي يبصر بها الشيء، أي جائتكم دلالات من قِبَل الله سبحانه على الأصول والأحكام ((فَمَنْ أَبْصَرَ))، أي من تبيّن هذه الدلالات ونَظَرَ فيها نظر معتبر بصير ((فَلِنَفْسِهِ)) فإنه يعود خير ذلك إلى ذاته وشخصه ((وَمَنْ عَمِيَ)) عنها فلم ينظر فيها وأعرض عنها ((فَعَلَيْهَا))، أي إنّ وبال الإعراض يعود على ضرره ((وَمَا أَنَاْ)) المراد بالضمير الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((عَلَيْكُم)) أيها الناس ((بِحَفِيظٍ)) أحفظكم عن الخطأ والإنحراف، وإنما أنا مبلّغ مرشد مَن آمن فلنفسه ومَن ضلّ فعلى نفسه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
105

((وَكَذَلِكَ))، أي مثل تصريفنا الآيات من ذي قبل ((نُصَرِّفُ)) هذه ((الآيَاتِ)) نرسلها ونبيّنها ((وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ))، أي يقول الكفار دَرَستَ هذه الآيات وتعلّمتَها من غيرك، كما كان ينسبون القرآن إلى تعلّمه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الراهب في طريق الشام، أو من سلمان، أو من بعض اليهود ((وَلِنُبَيِّنَهُ))، أي نوضّح ما تقدّم من الآيات ((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ))، أي للعلماء الذين يعلمون الآيات، فإنّ هؤلاء هم المنتفعون بالآيات ولذا خصّهم بالذِكر.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
106

((اتَّبِعْ)) يارسول الله ((مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ)) وهو ((لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)) وذَر الأصنام والأوثان، فإنّ صاحب الدعوة لا يبالي بما قاله المغرضون، ولا يضرّه إنحراف المنحرفين ((وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) فلا تتعرّض لهم، وليس المراد عدم دعائهم إلى الإسلام، أو عدم القتال معهم، بل معناه: أعرِض عن أقوالهم وطريقتهم، وهذا كما يُقال: أعرِض عن فلان، يُراد عدم الإهتمام بقوله والإعتناء بشأنه وإنه لابد من سلوك الطريق المستقيم أبى أم كره.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
107

((وَلَوْ شَاء اللّهُ)) أن يكرههم على عدم الشرك ((مَا أَشْرَكُواْ)) ولكن الدنيا دنيا إختبار وامتحان، فإنما يريهم الله سبحانه الطريق فمن شاء آمن ومَن شاء أشرك ((وَمَا جَعَلْنَاكَ)) يارسول الله ((عَلَيْهِمْ حَفِيظًا)) تحفظهم عن الشرك حتى يكون إثم الشرك عليك ((وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ))، أي لستَ بموكل عليهم في ذلك، وإنما عليك البلاغ والإنذار، ولعلّ الفرق بين الحفيظ والوكيل أنّ الحفيظ هو الذي يحفظ الشيء من الضرر، والوكيل هو الذي يُناط به أمره فيجب عليه دفع الضرر عنه وجلب النفع إليه، فهو أعم من الحفيظ.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
108

((وَلاَ تَسُبُّواْ)) أيها المسلمون الآلهة ((الَّذِينَ يَدْعُونَـ))ـها الكفار ((مِن دُونِ اللّهِ))، أي سوى الله ((فَيَسُبُّواْ اللّهَ)) مقابلة بالمِثِل ((عَدْوًا))، أي ظلماً بمعنى التعدّي عن الحق ((بِغَيْرِ عِلْمٍ)) فإنهم جاهلون بالله وإلا لما كانوا يسبّونه ويتّخذون آلهة سواه ((كَذَلِكَ)) الإعتقاد بالآلهة الباطلة ((زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)) فإنّ كل إنسان يرى عمله حَسَناً -وإن كان لو تفكّر وقارَنَ رأى الصحيح من عمله وأباطيله-، ونسبة التزيين إلى الله سبحانه لأنه هو الذي يخلق الخلق وسبّب الأسباب وذلك للإمتحان، وليتبيّن مَن يخالق نفسه ومَن يتّبع هواها ((ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ)) فإنّ الجميع يرجعون إلى حساب الله سبحانه وثوابه وعقابه ((فَيُنَبِّئُهُم))، أي يُخبرهم ((بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) من الأعمال الحَسَنة والقبيحة، ومعنى ذلك أنه يجازيهم بأعمالهم كما تقول لإبنك العاصي: أُخبر: بما عمِلتَ؟، تريد التهديد والوعيد.وهنا سؤال: أنه كيف نهى الله عن سبّ الأصنام، وفي القرآن كثير قد فيهم؟، والجواب: إنّ الفرق بين سبّ الحكيم وسبّ الجاهل، وأنّ الأول يعرف موقع السب بخلاف الثاني، كما لو نهى القاضي عن ضرب الناس ورأينا أنه ضرب بنفسه حدّ أو قصاص فإنّ الأمرين لا يتنافيان.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
109

((وَأَقْسَمُواْ))، أي حَلَفَ الكفار ((بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ))، أي إيمانهم المغلظة ((لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ))، أي معجزة خارقة حسب ما طلبوا من مقترحاتهم(( لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا))، أي بتلك الآية ((قُلْ)) يارسول الله لهم ((إِنَّمَا الآيَاتُ)) الخارقة ((عِندَ اللّهِ)) ومن لدنه وليس لديّ منها شيء، فإن عَرَفَ الصلاح في الإتيان بها أظهرها وإن عَرَفَ الصلاح في عدم الإتيان لم يأتِ بها ((وَمَا يُشْعِرُكُمْ)) أيها المؤمنون ((أَنَّهَا))، أي الآيات ((إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ)) كما جائت الآيات من قبل فلم يؤمنوا، والسر أنّ المعانِد لا تفيده الآية، والطالب للحق تكفيه ما تقدّم من الآيات فإنزال الآيات المقترحة لا فائدة فيها.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
110

((وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ)) جمع فؤاد وهو القلب ((وَأَبْصَارَهُمْ)) جمع بصر وهو العين ((كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ))، أي بالقرآن ((أَوَّلَ مَرَّةٍ)) فإنهم جوزوا بإنكارهم أول مرة الذي إستلزم عنادهم وتماديهم في غيّهم بأن أزعجت نفوسهم فجَعَلَت قلوبهم تخفق وأبصارهم تتحرّك زائغة كما هو شأن كل مُبطِل أما الحق أنه لا يدري ما يصنع وعينه تلتفت هنا وهناك مستوحية عن الأرض والسماء طريق المهرب والخلاص عن الأزمة التي وقع فيها ((وَنَذَرُهُمْ))، أي ندعهم ((فِي طُغْيَانِهِمْ)) الذين طغوا وتعدّوا الحق ((يَعْمَهُونَ)) يتردّدون في الحيرة، وقد روي أنهم لما طلبوا الآيات أراد النبي أن يسأل ربه تلك فجاء جبرئيل وقال: "إن شئتَ أصبح الصفا ذهباً ولكن إن لم يصدّقوا عُذّبوا وإن شئتَ تركتهم حتى يتوب تائبهم"، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): "بل يتوب تائبهم" فأنزل الله تعالى هذه الآية.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
111

ثم بيّن سبحانه أنّ هؤلاء معاندون لا يريدون بالآيات إلا الإقتراح ولو أُنزلت إليهم لم يكونوا يؤمنون ((وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ)) حتى يرونهم مشاهدة ويشهدون لك بالرسالة ((وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى))، أي أحيينا الأموات حتى تكلّمهم ((وَحَشَرْنَا))، أي جمعنا ((عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً))، اي مقابلاً ومعاينة بأن جئنا لهم بما طلبوا من الآيات، أو المراد جمعنا حواليهم الأياء الكونية بأن تأتيهم الشجر والحجر والماء والحيوان، وكان ذلك لبيان حشر صورة مدهشة مرعبة ((مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ)) لعنادهم وإصرارهم ((إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ)) أن يجبرهم على الإيمان، ولكنّ الله لا يشاء ذلك لأنه خلاف الحكمة ((وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)) أنهم لو أُتوا بكل آية لم يؤمنوا، بل يزعمون أنهم يؤمنون أنّ رؤوا الآيات لجهلهم بعنادهم الكامن في نفوسهم الذي لا ينفع معه كل آية.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
112

((وَكَذَلِكَ))، أي كما جعلنا لك يارسول الله أعداء معاندين ((جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا)) ومعنى الجعل التخلية بينهم وبين إختيار العداوة، وذلك إختبار لهم وترفيعاً لدرجات الأنبياء، وقد سبقت الإشارة إلى أنّ الأمور الإختيارية للناس تُنسب إلى الله سبحانه باعتبار جعله الأسباب والتخلية بين الناس وبينها، كما تنسب إلى فاعليها لأنهم السبب المريد لها ((شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ)) نصب شياطين لأنه بدل (عدوّاً) المراد به الجنس لا الواحد، والمراد بشياطين الإنس أما الشياطين الموكّلة بالإنسان التي تغويه وتأمره بالقبائح، وأما مِن قبيل خاتم فضة، أي المَرَدة من أفراد الإنسان، فإنّ الشيطان بمعنى المارد من شَطَنَ، قال الشاعر:



أيا شاطن عصاه عكاه      ثم يلقى في السجن والأغلال



وهكذا يُقال بالنسبة إلى شياطين الجن ((يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ))، أي يوسوس خُفية ((زُخْرُفَ الْقَوْلِ))، أي القول المزخرف الذي يستحسن ظاهره ولا حقيقة له ولا أصل ((غُرُورًا))، أي لأجل الغرور والإضلال ((وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ))، أي لو أراد جَبَرَهم على عدم هذه الأعمال العدوانية ضد الأنبياء لتمكّن من ذلك، لكنه لا يشاء لأنه خلاف الحكمة ((فَذَرْهُمْ))، أي دعهم ((وَمَا يَفْتَرُونَ))، أي إفترائهم، فأعرِض عنهم ولا تتعرّض له، بل خُذ طريقك وبلّغ رسالات ربك.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
113

إنّ الشياطين يوحي بعضهم إلى بعض زُخرف القول لأجل الغرور ((وَلِتَصْغَى))، أي لأجل أن تميل ((إِلَيْهِ))، أي إلى هذا الوحي بزخرف القول ((أَفْئِدَةُ))، أي قلوب ((الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) فإنهم يوسوسون يُغروا الناس وليجلبوا أفئدة الكفار إلى مكائدهم ((وَلِيَرْضَوْهُ))، أي يرضى من لا يؤمن بالآخرة، الوحي والوسوسة، بمعنى إرضاء الكفار عن منهجهم فلا يميلوا إلى الحق ((وَلِيَقْتَرِفُواْ))، أي يرتكبوا من الكفر والمعاصي ((مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ))، أي الشيء الذي يرتكبون، وجملة المعنى أنّ وسوسة الشياطين لأجل أن يُغروا الناس ويستميلوا قلوبهم ويرضون عن طريقتهم ويرتكبون الآثام.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
114

إنّ هناك شخصين متعاديين: الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والذي لا يؤمن بالآخرة، فمن الحَكَم بينهما؟، وهنا يأتي الجواب أنّ الحَكَم هو الله وحده، قُل يارسول الله لهؤلاء ((أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا))، أي أطلب سوى الله حاكماً ((وَهُوَ)) أعلم الحكّام فقد ((الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً)) فيه ما يحتاج إليه الإنسان يفصّل بين الحق والباطل، ومعنى التفصيل تبيين المعاني بما يوجب رفع الإشتباه، ومن المعلوم أنّ القادر على تنزيل مثل هذا الكتاب هو الذي يتّخذ حَكَماً ((وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ))، أي أعطيناهم ((الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى ((يَعْلَمُونَ أَنَّهُ))، أي الكتاب وهو القرآن ((مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ)) وليس كلام الآدميّين، وتخصيص أهل الكتاب بذلك لأنّ علمهم يقتضي أن يعرفوا ذلك، فإنه إنما يعرف ذا الفضل من الناس ذووه ((فَلاَ تَكُونَنَّ)) يارسول الله ((مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، أي الشاكّين، ومن المعلوم أنّ النبي لا يشكّ وأنما المراد به السامع، وإن كان توجيه الخطاب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
115

((وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ)) بالقرآن الكريم، فما أراده الله سبحانه من البشر تمّت بإنزال هذا الكتاب فليس ورائه كتاب آخر، وكلمة أخرى ((صِدْقًا وَعَدْلاً)) فما فيه من الأخبار صدق لا يشوبه كذب، وعدل لا يشوبه إنحراف وزَيغ، فكل خبر يخالف إخباره -عن المبدء.. عن المعاد.. عن الرسالة.. عن العدل.. عن الخلافة.. عن غيرها- فهو كذب، وكل حَكَم يخالف حُكمه فهو زَيغ وباطل ((لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ)) فإنّ كلمات الله سبحانه هي الميزان لكل شيء فلا أحد يبدّل كلماته تعالى بالزيادة والنقصان تبديلاً صحيحاً، ومَن بدّل فهو المنحرف الضال ((وَهُوَ السَّمِيعُ)) لأقوال الناس ((الْعَلِيمُ)) بكل ما يفعلون فيجازيهم حسب أعمالهم وأقوالهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
116

إنّ الميزان هو كلمات الله سبحانه التي نزلت عليك يارسول الله، فليس هناك حق في ما عدا ذلك ((وَ)) لذا ((إِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ)) لأنّ غالب الناس كفار أو ضلّال فاتّباعهم موجب للكفر والضلال، نعم هناك قلة لم يخلفهم زمان، هم الآخذين بأحكام الله تعالى، فإطاعتهم هي إطاعة الله ولا يوجب إتّباعهم ضلالاً وزيغاً ((إِن يَتَّبِعُونَ))، أي ما يتّبع هؤلاء الكثرة من الناس ((إِلاَّ الظَّنَّ)) فليس لهم حجّة وبرهان في كفرهم وضلالهم وإنما يرجّحون ظنّاً ما يعتقدونه أو يعملون به ((وَإِنْ هُمْ))، أي ما هم ((إِلاَّ يَخْرُصُون)) الخرص هو التخمين، أي يقولون تخميناً لا إعتقاداً وبتّاً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
117

((إِنَّ رَبَّكَ)) يارسول الله ((هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ))، أي أعلم من سائر الناس بمن يسلك سبيل الضلال، فما يقوله بقوله (إن يتّبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون) صادر عن علم ومعرفة، فإذا قال قائل: إنّ الكفار يعتقدون إتقاداً جازماً بما أشركوا، ويقولون ما يقولن عن بتّ ودقّة، فذلك غير عارف بأحوالهم، وربك أعلم منه بهم ((وَهُوَ)) سبحانه ((أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)) الذين يسلكون سبيل الهدى والرشاد.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
118

إذاً فالحكم كله لله صغيراً كان أو كبيراً، وقد كان الضالّون يجادلون المسلمين في شؤون كثيرة ومنها أمر الذبائح، فقد كانوا يأكلون الميتة ويتركون المذبوح، وكانوا يحتجّون على المسلمين قائلين: أتأكلون أنتم ما قتلتم ولا تأكلون ما قَتَلَ ربكم؟ يريدون الإعتراض في عدم أكل المسلمين للميتة ((فَكُلُواْ)) أيها المسلمون ((مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)) عند الذبح واجتمع فيه سائر الشرائط، والأمر للإباحة لأنه في مقام توهّم الحضر ((إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ)) بأن آمنتم بالله ورسوله وصدّقتم بما جاء به الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
119

((وَمَا لَكُمْ)) أيها المسلمون ((أَلاَّ تَأْكُلُواْ))، أي أيّ شيء لكم في أن لا تأكلوا ((مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ))، أي لِمَ لا تأكلونه -هل إنّ ذلك بزعم التحريم بسبب أنكم تقتلونه؟- ((وَقَدْ فَصَّلَ)) الله سبحانه ((لَكُم)) على لسان رسوله ((مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ)) وليست الذبيحة منها ((إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ))فإنكم إذا إضطررتم إلى ما حرّم جازَ لكم أكله بقدر الضرورة ((وَإِنَّ كَثِيرًا)) من الناس ((لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم)) فإلى حيث مالَ هواهم ساقوا الناس إليه، ذلك سيبّب إضلال الناس ((بِغَيْرِ عِلْمٍ)) يهديهم إلى الحق، وإنّ تحريم المشركين للمذكّى من هذا القبيل، فإنه من الهوى لا من علم وصلاح ((إِنَّ رَبَّكَ)) يارسول الله ((هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ)) الذين يتجاوزون الحق ويعتدون الحق إلى الباطل.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
120

وفي عداد ذِكر الحرام والحلال ينهي سبحانه عن كل محرّم ((وَذَرُواْ)) أيها السملمون ((ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ))، أي ما ظَهَرَ من المعاصي وما بَطَن مما يؤتي به سراً، قيل إنّ الجاهلين لم يكن به بأس، وبهذه المناسبة نَزَلَ هذا التعميم ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ))، أي يعملون بالمعاصي((سَيُجْزَوْنَ))، أي يُعاقَبون ((بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ))، أي يرتكبون، يُقال: إقترف الإثم، أي إرتكبه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
121

((وَلاَ تَأْكُلُواْ)) أيها المسلمون ((مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)) من الذبائح التي تُذبح بدون التسمية ((وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ))، أي إنّ كل ذلك فسق، وخروج عن طاعة الله تعالى ((وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ))، أي يلقون خفية في قلوبهم ((إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ))، أي الذين إتّبعوهم من الكفار ((لِيُجَادِلُوكُمْ)) قائلين: كيف تأكلون أيها المسلمون مما تقتلونه أنتم ولا تأكلون مما قتله الله، وقتيل الله أولى بالأكل من قتيلكم ((وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ)) في أكل الميتة ((إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) لأنّ إستحلال الميتة يوجب الكفر، أو المراد أنكم مثلهم، لا مثل المؤمنين، وهذا تعبير خطابي، ولعلّ هذا أقرب لأنّ الإستحلال يوجب الكفر لا الشرك.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
122

ثم ذَكَرَ سبحانه مثل الفريقين: المؤمنين والكفار ((أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا)) بالكفر ((فَأَحْيَيْنَاهُ)) بالإيمان، فإنّ الكفر شبه بالموت حيث أنّ الكافر لا يأتي منه العمل الصالح، والإيمان شبيه بالحياة لذلك ((وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا)) منهاجاً ينير به دروب الحياة ((يَمْشِي بِهِ))، أي بذلك النور ((فِي النَّاسِ))فيعرف كيف يمشي وكيف يعاشر، لا كالأعمى الذي يصطدم بهذا وذاك ((كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ))، أي كالكافر الذي مَثَله الشخص الذي لا نور له بل يمشي في الظلمات فمن في الظلمة شُبّه بالكافر، لأنّ ظلمة الكفر أشدّ من ظلمة عدم النور، فإنّ الكافر لا يعرف سبيل الحياة السليمة ولذا فهو دائم المشاكل والإصطدامات ((لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا)) إذ الخروج من الظلمة لا يكون إلا بانتهاج منهاج الإيمان، وإلا فمن ظلمة إلى ظلمة، وهذا سر ما شاهد من إزدياد مشاكل العالم يوماً بعد يوم، وكلما عدلوا القوانين وبدّلوا المناهج لم يزدهم إلا مشكلة وإعضالاً والإستفهام إنكاري، يُراد أنه ليسا بمتساويين بل الحي ذو النور أفضل من الميت في الظلمة ((كَذَلِكَ))، أي كما زيّن للمؤمن الإيمان كذلك((زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)) والذي زيّن لهم هو الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء، أو هو الله سبحانه بالمعنى المتقدّم في قوله (كذلك زيّنا لكلّ أمة عملهم)، أي خلّينا بهم وبين ما يزيّن عملهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
123

((وَكَذَلِكَ))، أي كما تركنا الكفار في ظلمتهم يعمهون، أو كما زيّن لهم أعمالهم كذلك ((جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا)) فتركنا المجرمين على حالهم ((لِيَمْكُرُواْ فِيهَا))، أي في القرية، واللام للعاقبة، أي إنّ عاقبة تركنا إياهم مكرهم في القرية كقوله تعالى (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحَزَنا)، أو المراد كما جعلنا ذا النور من المؤمنين كذلك جعلنا ذا الظلمة من المجرمين ((وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ)) فإنّ عاقبة مكرهم ووبال طغيانهم لا يرجع إلا إلى أنفسهم ((وَمَا يَشْعُرُونَ))، أي لا يدرون أنّ مكرهم يعود بالوبال السيّء إلى أنفسهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
124

((وَإِذَا جَاءتْهُمْ))، أي جائت هؤلاء المجرمي ((آيَةٌ)) دلالة من الله على التوحيد والرسالة ((قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ)) بهذه الآية وبما جائت من أجله((حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ))، أي تأتي على أيدينا المعجزة، ويوحى إلينا حتى نكون كالرُسُل، قالوا: نزلت هذه الآية في الوليد بن المغيرة حيث قال للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): والله لو كانت النبوّة حقاً لكنتُ أولى بها منك لأني أكبر منك سنّاً وأكثر منك مالاً، وقيل: نزلت في أبي جهل حيث قال: زاحَمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرس رهان قالوا منّا نبي يوحى إليه والله لا نؤمن به ولا نتّبعه أبداً إلا يأتينا وحي كما ياتيه ((اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)) فإنه سبحانه أعلم من جميع الخلق بموضع الرسالة، وليست هي بالمال والكبر والسن، بل بالفضائل النفسية والقابلية المحلية ((سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ))، أي عملوا الجرائم والموبقات ((صَغَارٌ عِندَ اللّهِ))، أي يكونوا أذلّاء في الآخرة، أو المراد الأعم من الدنيا والآخرة، ومعنى (عند الله) أنّ ذلك الصَغار من عنده سبحانه ((وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ))، أي بسبب مكرهم، فإنّ الصَغار والعذاب جزاء لأعمالهم القبيحة.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
125

إنّ النبي إذا جاء حكّم عقله وآمن، كان له من الله اللُطف الخفي وشرح الصدر، ومَن أعرَضَ وبقي على كفره أعرَضَ سبحانه عنه وخلّى بينه وبين ما يفعل الشيطان به من تضييق الصدر ((فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ)) إلى الإيمان ((يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ)) الشرح هو التوسعة، وهذا من باب التشبيه، فكما إنّ الشيء الوسيع له مجال أن ينفذ فيه شيء كذلك القلب المنشرح له محل أن ينفذ فيه الإسلام ((وَمَن يُرِدْ)) الله ((أَن يُضِلَّهُ)) لأنه تَرَكَ الإيمان وعانَد، فاقتضت المشيئة أن يخلّي بينه وبين الضلال حتى تكون عاقبة أمره خسراً ويذوق وَبال إعراضه ((يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا)) لا ينفذ فيه الإسلام ((حَرَجًا)) هو أضيق الضيّق -كما قالوا- ((كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء)) فإنّ الإنسان إذا جُرّ إلى السماء جراً أحسّ بضيق شديد في صدره، من جهة أنّ الهواء كلما لطف كان التنفس فيه أشكل، ومعنى (في) الولوج في طبقات السماء ليعطي معنى الشدة أكثر من (إلى) وكذلك التثقيل في (يصّعّد) ((كَذَلِكَ))، أي كما ذُكر من تضييق الصدر ((يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ)) وهو العذاب والصعوبة، أو المراد به المعنى الظاهري له، فإنّ للكفر رجساً ((عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ)) فعلى وجه العقوبة لمن لا يؤمن يُجعل صدره ضيّقاً حَرَجاً، فليس ذلك إبتداءاً منه سبحانه، كما قد يزعم الناظر في أول الآية، وهذا كقولك: أنّ من يريد خيره من أبنائي أعطيه المال، وإنّ من أريد شرّه أقطع عنه المال، وهكذا أعمل بمن لا ينصاع إلى أوامري.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
126

((وَهَذَا))، أي الإسلام ((صِرَاطُ رَبِّكَ)) يارسول الله ((مُسْتَقِيمًا)) لا إعوجاج فيه ولا إنحراف فمن لم يقبله لم يفرّ من المنحرف وإنما زاغَ وانحرف ((قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ))، أي بيّناها وشرحناها ((لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)) أصله يتذكّرون، ثم أُدغِمت التاء في الذال وأُدخِلت همة الوصل في أوله لتعذّر الإبتداء بالساكن، والمراد أنه لمن يتذكّر ما أودع فيه من الفطرة الآمرة باتباع الطريق المستقيم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
127

((لَهُمْ))، أي للذين تذكّروا وعرفوا الحق ((دَارُ السَّلاَمِ)) وهي الجنة، فإنها دار السلامة التي لا حرب فيها ولا بغضاء ولا مرض ولا همٌّ ولا ينغّص العيش ((عِندَ رَبِّهِمْ))، أي إنّ تلك الدار عند كرامة الله ولُطفه وفي ضمانه وعهده ((وَهُوَ))، أي الله سبحانه ((وَلِيُّهُمْ)) الذي يتولّى أمورهم ((بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ))، أي بسبب أعمالهم الصالحة واتّباعهم أوامره.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
128

((وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا))، أي نجمعهم، والضمير عائد إلى الجن والإنس، الذين تقدّم الكلام عنهم بأنهم يوحي بعضهم إلى بعض زُخرف القول غرورا، وأنه جَعَلَ لكل نبي عدواً منهم، وإذ يجمعون يُقال لهم: ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ))، أي إتّخذتم أتباعاً كثيرة منهم وأحتشدتم حشداً عظيماً من التابعين الذين اتّبعوكم في وساوسكم وغروركم، ولفظة (يوم) منصوبة بـ (يُقال) المقدّر ((وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم))، أي إتّباع الجن ((مِّنَ الإِنسِ)) الذين إتّبعوهم وأخذوا بوساوسهم وإيحاءاتهم ((رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ)) فلقد كان الإغواء نأخذه متاعاً واستمتاعاً، فإنّ الإنسان الذي لم يملأ فراغ قلبه الحق طلب متعة يستمتع بها، وما أجدر الإغواء والإيحاء أن يملأ ذلك الفراغ، وهذا كالإعتذار من الأتباع الإنسيين، كما يقول أحد الناس إذا سُأل عن عمله الباطل؟ أنه اتّخذه وسيلة للتسلية وسدّ الفراغ ((وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا))، أي الموت ((الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا))، أي وقّتّه وجعلته مدة، فقد أدركنا الموت ونحن في الإستمتاع ((قَالَ)) الله تعالى لهم ((النَّارُ مَثْوَاكُمْ))، أي مقامكم، والثواء الإقامة، والضمير عائد إلى الجن والإنس ((خَالِدِينَ فِيهَا))، أي في النار أبد الآبدين ((إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ)) أن تنقطع النار، وذلك بالنسبة إلى عصات المؤمنين ((إِنَّ رَبَّكَ)) يارسول الله ((حَكِيمٌ)) وبمقتضى حكمته جعل النار مثوى لهم ((عَليمٌ)) يعلم الصالح من الفاسد.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
129

((وَكَذَلِكَ))، أي كما تقدّم من الأخلّاء بين الجنّ والإنس، ليغوي بعضهم بعضا ((نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا)) فنجعل الظالم وليّاً للظالم في الدنيا، وفي الآخرة ((بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ))، أي بسبب كسبهم الأعمال السيئة وإعراضهم عن الحق.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
130

ثم يخاطب الجنّ الذين أوحوا إلى الإنس وأضلّوهم بهذا الخطاب ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ)) والمعشر هو الجماعة ((أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ)) على وجه الإستفهام الإنكاري، و(منكم) باعتبار أنّ الإنس والجنّ من مادة سفلية، فبعضهم من بعض أو باعتبار أنّ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسَلَ رُسُلاً من الجنّ إليهم ((يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ))، أي يتلون لكم ((آيَاتِي))، أي حُجَجي ودلائلي ((وَيُنذِرُونَكُمْ))، أي يخوّفونكم ((لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا))، أي يوم القيامة ((قَالُواْ))، أي قالت الجنّ في جواب هذا الإستفهام ((شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا)) بما تستحق من العقاب حيث خالفنا وعصينا فإنّا معترفون بالجرائم، ثم يقول سبحانه ((وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا))، أي تزيّنت لهم أغوتهم ((وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ)) في الآخرة ((أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ)) في الدنيا فاستحقّوا العقاب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
131

إنّ هؤلاء الجماعة الذين حُكِمَ عليهم بالنار لم يكن إعتباطاً وإنما كان بعد الإنذار والتبليغ و((ذَلِكَ)) الإرسال والإنذار لأجل ((أَن لَّمْ يَكُن))، أي لأنه ليس ((رَّبُّكَ)) يارسول الله ((مُهْلِكَ الْقُرَى))، أي يُهلِك ويعذّب أهل المدن ((بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُون)) عن الدين والطريق، بل إنما يهلكهم إذا أتمّّ الحجّة عليهم ثم خالَفوا وعصوا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
132

ثم إنه ليس التعذيب إعتباطاً بأن يُحشرون جميعاً في درجة واحدة -كما قد ينساق من الآيات السابقة- بل ((وَلِكُلٍّ)) من المجرمين، أو الأعم منهم ومن المطيعين ((دَرَجَاتٌ))، أي مراتب خاصة به ((مِّمَّا عَمِلُواْ)) (من) نشوية، أي تنشاء تلك الدرجات من أعمالهم في الدنيا ((وَمَا رَبُّكَ)) يارسول الله ((بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ)) فلا يدري مَن عَمِلَ وما عَمِلَ، بل كل شيء عنده محفوظ بقدره وخصوصياته.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
133

إنّ هذه الأوامر وتلك العقوبات ليست لاحتياج الله سبحانه إلى هذه أو تلك ((وَرَبُّكَ)) يارسول الله ((الْغَنِيُّ)) الذي لا يحتاج إلى شيء إطلاقاً((ذُو الرَّحْمَةِ)) ومن رحمته جَعَلَ الأوامر ليرحم العباد بها ((إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ))، أي يهلككم أيها البشر ((وَيَسْتَخْلِفْ))، أي يجعل خليفة لكم وفي محلكم ((مِن بَعْدِكُم))، أي بعد الإذهاب بكم ((مَّا يَشَاء)) من أنواع المخلوقات ((كَمَآ أَنشَأَكُم)) وأوجدكم ((مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ)) حيث أذهبهم وأتى بكم، فإنّ ذلك عليه يسير.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
134

((إِنَّ مَا تُوعَدُونَ)) أيها البشر من القيامة والحساب والثواب والعقاب ((لآتٍ))، أي يأتي لا محالة ((وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ))، أي لستُم تقدرون أن تسبّبوا عجزه سبحانه حتى لا يتمكن من إعادتكم والإتيان بكم لساحة الحساب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
135

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء ((يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ))، أي منزلتكم ومقدار تمكّنكم من الدنيا، وهذا الأمر للتهديد، أي إعملوا الكفر والمعاصي كما تتمكّنون ((إِنِّي عَامِلٌ)) بما أمَرَني الله سبحانه -فلكم دينكم ولي دين- ((فَسَوْفَ)) في الآخرة ((تَعْلَمُونَ)) جزاء أعمالكم ((مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ))، أي العاقبة المحمودة في دار السلام، هل أنتم أم أنا؟ لكن إعلموا أنّ عاقبة الدار لي فـ ((إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ)) ولا يفوز بالسعادة ((الظَّالِمُونَ)) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
136

ثم يعود السياق إلى معالجة العقيدة في بعض نواحيها فيحكي ما كان يفعله أهل الجاهلية من تقسيم ما ينفقوه من الزرع والأنعام بين الله وبين الأصنام ((وَجَعَلُواْ))، أي جعل الكفار ((لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ))، أي خَلَقَ ((مِنَ الْحَرْثِ))، أي الزرع ((وَالأَنْعَامِ))، أي المواشي الإبل والبقر والغَنَم((نَصِيبًا))، أي حظاً وقسماً، وجعلوا للأصنام نصيباً ((فَقَالُواْ هَذَا)) القِسِم ((لِلّهِ)) تعالى ((بِزَعْمِهِمْ)) وإنما نَسَبَهم إلى الزعم لأنه لم يكن لله، فإنّ الله لا يقبل الشيء الذي أُشرِكَ فيه ((وَهَذَا)) القِسِم ((لِشُرَكَآئِنَا))، أي الأوثان، أي الشركاء الذين نحن شاركناهم مع الله -وفي الإضافة تكفي أدنى ملابسة، ككوكب الخرقاء- ((فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ)) من الأنعام والحرث ((فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ))، أي إنّ الله لا يقبله، وكنّى بالإيصال لتشبيه المعقول بالمحسوس تقريباً للأذهان ((وَمَا كَانَ لِلّهِ)) بزعمهم ((فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ)) وهذا مجاز، فإنّ الأصنام تنتفع بهذا النصيب حتى ترنح لها القلوب الجاهلة المكانة المكينة، أو المراد أنهم كانوا إذا خصّصوا نصيباً للشركاء لا يأخذون منه لجانب الله شيئاً، أما الحصة المخصّصة لله سبحانه فقد يأخذون منها ليوفّروا المأخوذ على مال الأصنان، روي عن أهل البيت (عليهم السلام) أنهم كانوا يعيّنون من حرث ونتاج لله ويصرفونه إلى الضيوف والمساكين وشيئاً منها لآلهتهم وينفقونه على سَدَنَتَها ويذبحون عندها ثم إن رأوا ما عيّنوا لله أزكى بدّلوه بما لآلهتهم وإن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها حبّاً لآلهتهم واعتلوا لذلك بأنّ الله غني، وروي أيضاً أنه كان إذا إختلط ما جُعل للأصنام بما جُعل لله ردّوه وإذا إختلط ما جُعل لله بما جعلوه للأصنام تركوه وقالوا: الله غني وإذا إنخرق الماء مِن الذي لله في الذي للأصنام لم يسدّوه وإذا إنخرق مِن الذي للأصنام في الذي لله سدّوه وقالوا: الله غني، فردّ عليهم سبحانه بقوله ((سَاء مَا يَحْكُمُونَ))، أي إنّ حكمهم بالتشريك أو عند الإختلاط والتزكية شيء فإنّ الله وإن كان غنياً لكن هذا العمل مخالف لجلال شأنه وعظم كبريائه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
137

((وَكَذَلِكَ))، أي كما جعل المشركون في الحرث والأنعام ما لا يجوز كذلك فعلوا بالنسبة إلى أولادهم ما لا يجوز ((زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ)) فاعل (زيّن) (شركائهم)، أي إنّ الشياطين الذين إتّخذهم المشركون شركاء لله زيّنوا لهم أن يقتلوا أولادهم ((قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ)) مفعول (زيّن) ((شُرَكَآؤُهُمْ)) فقد كان كثير من المشركين يعبدون الجن، وهي توحي بالأعمال السيئة، فقد كانوا يقتلون البنات خوف العار كما قال سبحانه (وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأُنثى ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم -إلى أن يقول- أم يدسّه في التراب) وقال (وإذا الموؤدة سُإلَت بأيّ ذنبٍ قُتِلَت)، وكانوا يقتلون البنين خوف الفقر كما قال سبحانه (ولا تقتلوا أولادكم مِن إملاق) ((لِيُرْدُوهُمْ)) من أرداه بمعنى أهلكه، أي إنه كانت غاية الشياطين -الشركاء- التي زيّنت للمشركين قتل أولادهم، إرادة إهلاك الأولاد بالقتل وإهلاك الآباء بالذنب ((وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ))، أي يخلطوا الحق بالباطل حتى لا يعرفوا أحدهما من الآخر، وفي الغالب يأتي أهل الباطل بضغث من الحق وضغث من الباطل حتى لا يصغر الحق فيتّبعه الناس ((وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ))، اي ما قَتَلوا أولادهم، ومشيئة الله إنما هي بجبرهم على الهدى، لكنه لا يشاء لأنّ الدنيا خُلِقَت للإختبار ((فَذَرْهُمْ))، أي دعهم واتركهم يارسول الله ((وَمَا يَفْتَرُونَ))، أي إفترائهم على الله سبحانه، فقد كان المشركون ينسبون أباطيلهم إليه سبحانه، و(ذرهم) تهديداً لهم لا إنّ معناه عدم وجوب ردعهم ونهيهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
138

((وَقَالُواْ))، أي قال المشركون في قسم آخر من خزعبلاتهم ((هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ))، أي مواشِ وزرع ((حِجْرٌ))، أي حرام ((لاَّ يَطْعَمُهَا))، أي لا يأكلها ((إِلاَّ مَن نّشَاء)) وهي التي خصّصوها لأصنامهم فقد كانت خاصة للسَدَنة لا يُشركهم فيها أحد ((بِزَعْمِهِمْ))، أي قد كان هذا التحريم زعماً منهم إذ لم يُنزِل الله به من سلطان ((وَ)) عَمَدوا إلى قسم ثانِ من الأنعام فحَجَروها وقالوا هذه ((أَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا))، أي لا يُركب عليها لأنها نُذرت للآلهة، أو لأنها ولدت كذا ولداً، أو لأنها حَمَت ظهرها من السائبة وأخواتها كما تقدّم في سورة المائدة ((وَ)) عمدوا إلى قسم ثالث من الأنعام فهي ((أَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْها)) عند الركوب، أو عند الذبح، أو لا يحجّون عليها، وقد كانوا ينسبون ذلك إلى الله سبحانه ((افْتِرَاء عَلَيْهِ)) فقد كانوا كاذبين في هذه النسب ((سَيَجْزِيهِم)) الله سبحانه ((بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ))، اي بسبب إفترائهم على الله سبحانه كذباً وزورا.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
139

((وَقَالُواْ))، أي قال المشركون في قسم آخر من أباطيلهم ((مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ)) من الجنين ((خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا))، أي نسائنا، إن كانت حية ((وَإِن يَكُن)) ما في بطن الأنعام ((مَّيْتَةً)) بأن خرج الجنين ميتاً ((فَهُمْ)) رجالاً ونساءً ((فِيهِ شُرَكَاء)) يجوز للنساء أكله كما يجوز للرجال ((سَيَجْزِيهِمْ)) الله تعالى ((وَصْفَهُمْ))، أي هذا الوصف الذي كانوا يصفون الجنين بالتحليل والتحريم و(وصف) منصوب بنزع الخافض، أي: بوصفهم ((إِنَّهُ)) سبحانه ((حِكِيمٌ)) يحكم عن حِكمة ومصلحة ((عَلِيمٌ)) بما يصدر من هؤلاء فيجازيهم حسب المصلحة والحِكمة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
140

ثم يجمع ذلك كله بقوله سبحانه ((قَدْ خَسِرَ)) الكفار ((الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ)) خوف العار أو الفقر أو للنذر -فقد كانوا ينذرون قتل الأولاد-((سَفَهًا))، أي جهلاً وسفاهة، فإنهم إشتروا بذلك النار ((بِغَيْرِ عِلْمٍ)) بما يعملون، فإنهم كانوا يزعمون صحّة عملهم هذا ((وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ))، أي خسروا بتحريمهم قسماً من الأنعام والحرث الذي زَعَموا أنه حِجر ((افْتِرَاء عَلَى اللّهِ)) حيث كانوا ينسبون ذلك إليه سبحانه ((قَدْ ضَلُّواْ)) الطريق المستقيم ((وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ)) في تلك الأعمال.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
141

((وَهُوَ)) الله ((الَّذِي أَنشَأَ))، أي خَلَقَ وأبدَعَ ((جَنَّاتٍ))، اي بساتين ((مَّعْرُوشَاتٍ))، أي مجعولات لها عروش من الكروم ((وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ)) من الأشجار التي لا تحتاج إلى العروش بل هي قائمة على ساقها ((وَ)) أنشأ ((النَّخْلَ)) للتمر ((وَالزَّرْعَ)) من مختلف المزروعات في حال كون جميع ذلك ((مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ))، أي ثمره الذي يُؤكل والإختلاف في اللون والطعم والشكل والخواص ((وَ)) أنشأ ((الزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ)) وذَكَرَهما لكثرتهما في هذه البلاد، في حال كون ذلك كله أو الآخرين ((مُتَشَابِهًا)) يشبه بعضها بعضاً ((وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)) من حيث اللون والورق والشجر وغيرها ((كُلُواْ)) أيها البشر ((مِن ثَمَرِهِ))، أي ثمر هذا المنشأ ((إِذَا أَثْمَرَ)) فإنّ ذلك مباح لكم ((وَآتُواْ حَقَّهُ))، أي الحق المجعول عليه وهو إعطاء الفقراء منه شيئاً، حفنة حفنة، أو كفاً كفاً ((يَوْمَ حَصَادِهِ))، أي إجتنائه وقطعه ((وَلاَ تُسْرِفُواْ)) في باب ما رَزَقناكم، بأن تُعطوا الجميع، أو تصرفوه فيما لا يعني، أو ما أشبه ((إِنَّهُ)) سبحانه ((لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ))، أي يكرههم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
142

((وَ)) أنشأ ((مِنَ الأَنْعَامِ)) الإبل والبقر والغنم ((حَمُولَةً)) هي الإبل التي تَحمِل، أو كل ما يَحمِل من الخيل والبغال والحمير والإبل ((وَفَرْشًا))، أي ما يُفترش به من جلودها، أو المراد بالفرش صغارها قبل أن تكون صالحة للحمل، وكذلك الغنم ((كُلُواْ)) أيها البشر ((مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ))ولا تحرّموا شيئاً منها كما كان الجاهلون يحرّمون بعض الطيبات ((وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ)) كأنّ العاصي يضع قدمه حيث وضع الشيطان قدمه ((إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ))، أي واضح العداوة، لأنه يسبّب ذهاب دنياكم وآخرتكم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
143

ثم بيّن سبحانه أن ليس في شيء من الأنعام محرّماً، وإنما ذلك إختلاف الجهّال، أنه سبحانه أنشأ ((ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)) من الأنعام الثلاثة، والزوج يقع على الواحد الذي يقع معه الآخر، وعلى الإثنين، فالرجل زوج والمرأة زوج، كما إنّ كليهما زوج ((مِّنَ الضَّأْنِ)) وهي الشاة((اثْنَيْنِ)) ذكر وأنثى وإثنين بدل من (ثمانية) ((وَمِنَ الْمَعْزِ)) وهي الصخل ((اثْنَيْنِ)) ذكر وإثنين ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الذين يحرّمون بعض هذه الأقسام ((آلذَّكَرَيْنِ)) حخلت همزة الإستفهام على همزة الوصل وفُصِلَ بينهما بالألف، ولم تسقط همزة الوصل لئلا يلتبس الإستفهام بالخبر وإن جازَ الحذف لقرينة (أَم)، أي: هل أحد الذَكَرَين من الضأن والمِعزَ ((حَرَّمَ)) الله ((أَمِ)) أحد ((الأُنثَيَيْنِ)) منها ((أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ))، اي الجنين الذي إشتمل عليه رحم الضأن والمعز، فإنهم كانوا يقولون أنّ ما في بطون هذه الأنعام محرّم للأناث وخالصة للذكور ((نَبِّؤُونِي))، أي: أخبروني أيها الكفار المحرِّمون لبعض هذه الأقسام ((بِعِلْمٍ))، أي: عن دليل عملي، لا الأوهام والظنون ((إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)) في تحريم الله سبحانه لهذه الأقسام.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
144

((وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ)) ذكر وأنثى، وهو عطف على (من الضأنِ إثنين) ((وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ)) ذكر وأنثى، وهذا تمام الثمانية ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء ((آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ))، أي: هل أنّ أحداً من الذَكَرَين حرّم الله سبحانه ((أَمِ)) أحد ((الأُنثَيَيْنِ)) من الإبل والبقر ((أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ)) من الجنين -كما تقدّم- ((أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء))، أي: حضوراً -مقابل قوله (نبّؤوني بعلمٍ)-، أي: هل علمتم أو حضرتم التحريم ((إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا)) التحريم، وإ لا دليل لكم لا سماعاً ولا حضوراً ((فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا)) فإنّ من ينسب إلى الله سبحانه حُكماً بالكذب هو أظلم الناس لنفسه، وقد تقدّم أنّ التفضيل هنا نسبي لا واقعي ((لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ)) فيوقع الناس في الضلالة ولا علم له بصحة عمله، بل يعلم بطلانه أو يظنّ بما يقوله ظنّاً ((إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) بل يتركهم وشأنهم حتى يتمادوا في غيّهم وضلالهم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
145

((قُل)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ))، أي ما أوحاه الله سبحانه في باب تحريم هذه الأشياء التي تناولونها أنتم والتي تحرّمونها ((مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ))، أي على آكل يأكله فكل ما تذكرو تحريمه باطل، بل هي حلال طيب ((إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً)) غير مُذكّى شرعاً ((أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا))، أي مصبوباً، وإنما خصّ المسفوح بالذَكر لأنّ ما اختلطَ باللحم مما يعسر تخليصه منه محلّل مُباح ((أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ))، ومن المعلوم أنّ ذَكر اللحم من باب المثال وإلا فشحمه وسائر أجزائه أيضاً حرام ((فَإِنَّهُ))، أي كل واحد من هذه المحرّمات، أو خصوص لحم الخنزير ((رِجْسٌ))، أي قذر منفور منه ((أَوْ فِسْقًا)) عطف على (ميتة)، أي لحماً يكون أكله فسقاً، لأنه خلاف إباحة الله وذلك فيما ((أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ))، أي: ذُكِرَ عليه إسم الأصنام حين القتل، ولم يُذكر عليه إسم الله ((فَمَنِ اضْطُرَّ)) إلى تناول أحد هذه المحرّمات((غَيْرَ بَاغٍ)) في أكله ((وَلاَ عَادٍ)) من التعدّي، بأن لم يكن طالباً لأكل الحرام ومتعدّياً حدّ سدّ الرمق -وقد تقدّم المعنى في سورة المائدة-((فَإِنَّ رَبَّكَ)) يارسول الله ((غَفُورٌ)) يغفر لمن تناول مضطراً ((رَّحِيمٌ)) بالعباد حيث رَخّصَ لهم ذلك، وقد تقدّم عدم المنافاة بين عدم المعصية والغفران.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
146

هذا كان الحُكُم بالنسبة إلى غير اليهود ((وَ)) أما ((عَلَى الَّذِينَ هَادُواْ)) فقد ((حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)) من دابة ليس مشقوقة الرِجل كالإبل والنعام، أو طير كالأوز والبط ((وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا)) كل شحم في بدنهما ((إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا))، أي الشحم الذي كان على ظهرهما ((أَوِ)) ما حملته ((الْحَوَايَا)) من الشحم، وهي جمع حاوية، والمراد به الأمعاء، وهو الشحم الملتف بالأمعاء ((أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ))كشحم الجنب والإلية ونحوهما ((ذَلِكَ)) التحريم عليهم لم يكن لأجل ضرر في المحرّمات عليهم بل ((جَزَيْنَاهُم بِـ)) سبب ((بَغْيِهِمْ))، أي ظلمهم حيث كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ((وِإِنَّا لَصَادِقُونَ)) في أخبارنا عن بني إسرائيل وما فعلوا وما فعلنا بهم، وذلك بخلاف كثير من الأعداء حيث يلفّقون أخباراً مكذوبة على أعدائهم لحطّهم في أعين الناس.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
147

((فَإِن كَذَّبُوكَ)) يارسول الله فيما ذكرتَ للمشركين من التحريم والتحليل، بل قالوا إنّ حرام الله وحلاله كما نقول، أو فيما ذكرتَ عن اليهود من تحريم الله عليهم المذكورات بسبب بغيهم ((فَقُل)) لهم ((رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ)) يرحم جميع ذوي الروح، ولذا لا يعجّلكم بالعقوبة لعلكم تتوبون ((وَ)) لكن مع ذلك ((لاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ))، أي لا يدفع عذابه إذا جاء وقته ((عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)) الذين إرتكبوا الجرائم.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
148

((سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ)) واتّخذوا شريكاً لله سبحانه، للدفاع عن أنفسهم وتبرير شِركهم ((لَوْ شَاء اللّهُ)) أن لا نُشرِك ((مَا أَشْرَكْنَا)) نحن ((وَلاَ))أشرَكَ ((آبَاؤُنَا)) من قَبل ((وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ)) فإذا أشركنا وحرّمنا وسَكَتَ الله عنّا فهو يرضى بذلك ويريد شِركنا وتحريمنا ((كَذَلِكَ))، اي كتكذيب هؤلاء لك يارسول الله في مقالك أنّ الله لا يرضى بالشِرك ولم يحرّم ما حرّمتموه ((كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم)) أنبيائهم ((حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا))، أي حتى نالوا عذابنا ونكالنا ((قُلْ)) يارسول الله لهم ردّاً على حجّتهم ((هَلْ عِندَكُم)) أيها المشركون ((مِّنْ عِلْمٍ)) بأنّ الله يريد شِرككم وتحريمكم للمحلّلات ((فَتُخْرِجوهُ لَنا)) وإذ ليس لكم دليل فكلامكم خالٍ عن الحجّة ((إنْ تَتّبِعونَ))، أي ما تتّبعون في أقوالكم وأعمالكم ((إلاّ الظَّنَّ)) فإنكم تظنّون ما تقولونه لما اعتدتم عليه ((وَإِنْ أَنتُمْ))، أي: ما أنتم ((إَلاَّ تَخْرُصُونَ)) الخرص هو التخمين.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
149

((قُلْ)) يارسول الله لهم أنكم إذا عجزتم عن إقامة الدليل على عقيدتكم ومدعاكم ((فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ)) التي بَلَغتُكم بأنه لا يريد الشرك ولم يحرّم المذكورات ((فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ)) بالجبر والإكراه، لكنه لا يشاء ذلك حتى يُجري الإختيار والإختبار.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
150

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الذين حرّموا الأمور المذكورة ((هَلُمَّ))، أي أحضِروا ((شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا)) الذي ذكرتم حُرمته من أقسام الحيوان والزرع، إنه طالَبَهم بالعلم فلم يكُن لهم ثم يطالبهم بالشاهد، لكنه لا شاهد عندهم ولكنهم قد يأتون بشهود زور((فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ)) يارسول الله ((مَعَهُمْ)) فإنّ شهادتهم باطلة، وإن قيل كيف دعاهم إلى الشهادة، ثم لم يقبل شهادتهم؟ قلنا أنه دعاهم إلى أن يأتوا بالشهود العدول لا من أنفسهم، وإلا فالمدّعي لا يكون شاهداً، فإن شَهِدوا بأنفسهم لم تقبل شهادتهم ((وَلاَ تَتَّبِعْ)) يارسول الله ((أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا))، أي هوى أنفسهم، فإنّ مَن لا يعمل بالحق لابد وأن يكون متّبعاً لهواه، وحيث يرشده الهوى إليه ((وَ)) لا تتّبع أهواء((الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ)) كالكفار الذين كانوا ينكرون البعث ومن المعلوم أنّ الكفار كانوا على قسمين منهم مَن يؤمن بالآخرة كأهل الكتاب، ومنهم مَن لا يؤمن به كالدهرية ((وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ))، أي يجعلون له عدلاً وشريكا.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
151

وبعد إستنكار ما حرّمه المشركون على أنفسهم، واستنكار إستحلالهم لبعض المحرّمات يأتي السياق لبيان المحرّمات الواقعية التي حرّمها الله سبحانه ((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء المشركين ((تَعَالَوْاْ))، أي أقبِلوا واحضروا ((أَتْلُ))، أي إقرأ ((مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) (ما) مفعول (أتلُ)((أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ))، أي بالله ((شَيْئًا))، أي لا تجعلوا له سبحانه شريكاً، والجملة في تأويل المصدر، فيكون بدلاً من (ما حرّم)، أي: إتلُ تحريم الشِرك، فلا يُقال: إنّ النفي في النفي يفيد الإثبات ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا))، أي أوصاكم بهما إحسانا، إذ في (حرّم) معنى الإيصاء، وإحساناً منصوب بفعل مقدّر تقديره: أحسِنوا بالوالدين إحسانا، ومن المعلوم أنّ ترك كل واجب حرام، ولذا صحّ تعداده في جملة (ما حرّم) ((وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم)) بنين وبنات ((مِّنْ إمْلاَقٍ)) هو الفقر، أي: من جهة الفقر، فقد كان المشركون يقتلون أولادهم خوف أن يفتقروا فلا يجدوا مؤونتهم ((نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ)) أنتم الآباء ((وَإِيَّاهُمْ))، أي الأبناء، فليس رزقهم عليكم، ثم إنّ من المعلوم أنّ الرزق يحتاج إلى جد وتعب فليس المراد برزقه إيّاهم أنه يُنزله من السماء في الدلو ((وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ)) جمع فاحشة، صفة للمقدّر أي الصفة الفاحشة ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا)) للناس((وَمَا بَطَنَ))، أي أتى به سراً، وهذا يشمل جميع المحرّمات غير المذكورة بالنص ((وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ)) من المسلم والمعاهِد ((إِلاَّ بِالْحَقِّ)) وقد تقدّم أنّ مثل هذه الإستثناءات من أصل الكلام لا من قيده، أي لا تقتلوا النفس إلا بالحق، والحق في القتل في موارد خاصة كالجهاد والزاني المُحصَن والمرتد الفطري والمهاجِم والقصاص ومَن أشبه ((ذَلِكُمْ)) المذكور في الآية من المحرّمات ((وَصَّاكُمْ)) الله((بِهِ))، أي أمَرَكم، فإنّ الوصية بمعنى الأمر ((لَعَلَّكُمْ)) أيها البشر ((تَعْقِلُونَ))، أي تحكّمون عقولكم في المحرّم والمحلّل فلا تقولوا شيئاً إعتباطاً.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
152

((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ)) وهو مَن فَقَدَ الأب والجد، أو الأعم منه ومَن فَقَدَ الأم، وكلمة (لا تقربوا) للمبالغة في الإجتناب، وتخصيص اليتيم بالذَكر مع عدم جواز التصرّف في مال كل أحد بدون رِضاه لأجل أنّ اليتيم لا يقدر على الدفاع عن نفسه ((إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))، أي بالطريقة التي أحسن من سائر الطرق بأن يحفظ له ماله إلا بمقدار ضروري مُعاش اليتيم حيث يُصرف عنه ((حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)) الأشُد جمع شد نحو أضر جمع ضر، والشد القوة وهو إستحكام قوة الشباب، أي حتى يبلغ إلى قوى شبابه، وهو إنما يحصل بالبلوغ والرُشد، والبلوغ في الولد كمال خمس عشرة سنة، أو الإنبات، أو الإحتلام، وفي البنت -غالباً- كمال التسعة والدخول في العاشرة ((وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ)) فلا تنقِصوا الكيل والميزان عند البيع، ولا تزيد وهما عند الشراء ((بِالْقِسْطِ))، أي بالعدل، فلا إفراط ولا تفريط ((لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا))، أي بالمقدار الذي يَسَعها ولا يوجب ضيقاً وحَرَجاً عليها، فهذه التكاليف السابقة، لا حَرَجَ فيها على النفس، أو المراد أنّ الوفاء بالكيل والوزن حسب المتعارف، لا الدقة العقلية حتى يوجب عُسراً وحَرَجاً، ولا يُقال: فكيف كلّف الإنسان بالجهاد؟ لأنّا نقول: الجهاد خارج عن هذا العموم فإنه لإرساء قواعد الإسلام، والعموم إنما هو في مقابل التكاليف في سائر الشرائع -المنحرفة- والقوانين المرهِقة فإنه يريد بيان سهولة أحكام الإسلام وسماحها ((وَإِذَا قُلْتُمْ)) شيئاً ((فَاعْدِلُواْ)) في القول، والعدل فيه أن لا يميل نحو الباطل، فالغيبة والسبّ والقضاء بغير الحق وما أشبهها ظلم ليس بعدل ((وَلَوْ كَانَ)) المقول فيه ((ذَا قُرْبَى)) فإنّ الناس غالباً يقولون الباطل لربح ذوي قرباهم، ولذا يأمرهم سبحانه بالعدل بالنسبة إليهم ((وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ)) والمراد جميع معاهداته، كما قال: (أوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم) فالمراد الإتيان بالواجبات وترك المحرّمات ((ذَلِكُمْ)) الذي تقدّم ذِكره من الأحكام ((وَصَّاكُم بِهِ)) على طريق اللزوم والحتم ((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ))، أي لكي تتذكّروا وتأخذوا به، والتذكّر باعتبار ما هو كامن في الفطرة من حُسن هذه الأشياء -كما سبق-.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
153

((وَ)) وصّاكم سبحانه ((أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا))، أي إنّ الأحكام التي أنزلتها توصل إلى السعادة، فهي طريق إليها بالإستقامة، لا كسائر الطرق الملتوية التي قد لا توصل، وقد توصل بالتواء وعناء ((فَاتَّبِعُوهُ))، أي سيروا عليه وانتهجوه ((وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ)) الأُخر من سُبُل الكفر والبدع والشبهات ((فَتَفَرَّقَ))، اي تتفرّق تلك السُبُل ((بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ)) فتشتتكم وتلهيكم عن طريقه سبحانه ((ذَلِكُمْ)) الإتّباع لسبيله ((وَصَّاكُم))الله ((بِهِ)) إلزاماً ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))، أي لكي تتّقوا عقابه وتحذّروا الخسران.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
154

إنّ هذا الصراط كان قديماً قبل موسى وعيسى ومحمد (عليهم الصلاة والسلام) وإنّ الجميع كانوا مأمورين باتّباعه ((ثُمَّ)) بعد سبق هذا الصراط عند الأنبياء السابقين ((آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ))، أي أعطيناه التوراة ((تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ))، أي لأجل إتمام عمل موسى (عليه السلام) الحسن الذي أدّاه من القيام بالتبشير والهداية، أو لأجل تمام النعمة على موسى الذي أحسَنَ الخدمة لله سبحانه، فإنّ إنزال الكتاب على النبي من أعظم المفاخر بالنسبة إليه ((وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ)) مما يحتاج إليه الناس ((وَهُدًى))، أي دلالة على الحق ((وَرَحْمَةً)) يرحم الله بسببه على عباده حيث ينقذهم من الشقاء إلى السعادة ((لَّعَلَّهُم))، أي لعلّ الناس ((بِلِقَاء رَبِّهِمْ))، أي بملاقاة جزاءه وثوابه وعقابه ((يُؤْمِنُونَ))فيسعدون.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
155

((وَهَذَا)) القرآن ((كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ)) له بَرَكة يأتي منه الخير الكثير ((فَاتَّبِعُوهُ)) أيها الناس ((وَاتَّقُواْ)) معاصي الله سبحانه ومخالفة كتابه((لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))، أي لكي تشملكم الرحمة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
156

وإنما أنزلنا هذا الكتاب ((أَن تَقُولُواْ))، أي لئلا تقولوا ((إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ)) من قِبَل الله سبحانه ((عَلَى طَآئِفَتَيْنِ)) اليهود والنصارى ((مِن قَبْلِنَا)) ولم يرتبط الكتاب بنا حتى نؤمن ((وَإِن كُنَّا)) (إن) مخفّفة من المثقّلة، أي أنه كنّا نحن العرب ((عَن دِرَاسَتِهِمْ))، أي دراسة أولئك الطوائف المنزَل عليهم الكتب، أي لغتهم ((لَغَافِلِينَ)) فلم نعرف ما في كتبهم حتى نؤمن، فقد أنزلنا إليكم الكتاب حتى لا يكون لكم عذر في عدم الإيمان.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
157

((أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ)) الذي نفهمه ((لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ))، أي أكثر هداية في التمسّك والعمل على طِبق الكتاب، لأنّا أليَن عريكة وأكثر تمسّكاً بالمعتقدات ((فَقَدْ جَاءكُم)) أيتها الأمة المعاصِرة للرسول ((بَيِّنَةٌ))، أي دلالة واضحة ((مِّن رَّبِّكُمْ)) وهو القرآن ((وَهُدًى)) يهتدي به إلى الحق ((وَرَحْمَةٌ)) يرحم به الله من تمسّك به إذ يسعده في الدنيا والآخرة ((فَمَنْ أَظْلَمُ))، أي مَن يكون أكثر ظلماً لنفسه ((مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ)) وهو القرآن ((وَصَدَفَ))، أي أعرَضَ ((عَنْهَا))، أي عن الآيات ((سَنَجْزِي)) في الآخرة، أو الأعم منها ومن الدنيا ((الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ))، أي العذاب الشديد ((بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ))، أي بسبب إعراضهم عن الحق والآيات.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
158

ما ينتظر هؤلاء الكفار بعد نزول القرآن؟ ((هَلْ يَنظُرُونَ))، أي هل ينتظرون للإيمان ((إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ)) وذلك لا يمكن في دار التكليف((أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ)) وذلك مستحيل لأنّ الله لا مكان له ولا حركة ((أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ))، أي العذاب حتى يروا العذاب فيؤمنوا ((يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ)) يارسول الله ((لاَ يَنفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ)) فإنّ العذاب إذا نزل لا تُقبل التوبة، لأنّ العذاب لا ينزل إلا بعد تمام الحجّة والمخالفة، وحين ذاك قد تمّ الإختبار وصار موعد المُجازات ((أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا)) عطف على (لم تكن آمَنَت)، والمعنى أنه لا ينفع في ذلك اليوم إيمان نفس إذا لم تكن آمنت قبل ذلك اليوم أو ضمّت إلى إيمانها أفعال الخير، فإنها إذا آمَنت قبل نَفَعَها إيمانها، وكذلك إذا ضمّت إلى الإيمان طاعة لنفعها أيضاً، فلا ينفع إيمان كافر، ولا طاعة المؤمن، وإنما النافع الإيمان السابق والطاعة السابقة ((قُلِ)) يارسول الله لهؤلاء ((انتَظِرُواْ)) إتيان بعض آيات الله فـ ((إِنَّا مُنتَظِرُونَ)) ذلك، حتى يرى كل واحد منّا جزاءه العادل وما قدّم لنفسه.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
159

ثم يقرّر أنّ الإسلام إنما هو دين واحد لا تفرقة فيه، فالذين يتفرّقون ليسوا من الإسلام كما إنّ مَن أشرَك ليس من الغسلام ((إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ)) تفريقاً بالأهواء كالكفار المختلفين، أو بالأديان كاليهود والنصارى وفِرَقِهم، أو بالضلالة والشبهات ولو في دين الإسلام، كالفرق المبتَدِعة، فإنّ الذين يفعلون ذلك ((وَكَانُواْ شِيَعًا)) جمع شيعة، اي طوائف مختلفة ((لَّسْتَ)) يارسول الله ((مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)) فلا ربط بينكما أبداً وإنما هم في جهة وأنت في جهة، وليس معنى أنّ الجميع باطل، بل المعنى أنّ ما ليس فيه الرسول باطل وإلا فالحق دائماً في أحد الطوائف ((إنَّما أمْرُهُمْ))، أي أمر هؤلاء الذين فرّقوا دينهم وكانوا شِيَعاً ((إِلَى اللّهِ)) سبحانه فهو الذي يجازيهم لسوء أفعالهم ((ثُمَّ يُنَبِّئُهُم))، أي يُخبرهم ((بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ)) من الأعمال، وهذا تهديد، كقولك: لأعلّمنّك غداً، لمن خالف أمرك، تريد أنك تعاقبه بفعله، وهنا سؤال أنه إذا علمنا نحن المسلمين بطلان سائر المذاهب والطوائف فماذا نفعل بهذا الإختلاف بين المسلمين أنفسهم؟، والجواب: إنّ الكتاب والسنّة يأمرانا باتّباع علي وأهل بيته الأئمة الأحد عشر، وبعد ذلك قد عيّن الفقهاء الراشدون لمرجعية الأمة في قوله (عليه السلام): "مَن كانَ مِنَ الفقهاء صائناً لنفسه حافِظاَ لدينه مُخالِفاً لهواه مُطيعاً لأمرِ مولاه فللعوّام أن يقلّدون"، وقوله (عليه السلام): "أما الحوادث الواثعة فارجعوا فيها إلى رُواة حديثنا فإنهم حُجّتي عليكم وأنا حُجّة الله"، أما الإختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع فليس ذلك إختلافاً يُذكر، بل هو كالإختلاف بين كل مهندسَيْن أو طبيبَيْن أو حاكمَيْن مع إخلاص كل منهما واتحاد منهجهما، ثم أنه قد يستغرب كيف يكون مصير هذه الكثرة من الناس الذين ليسوا بمسلمين وكثير من المسلمين المنحرفين النار ومَن يبقى للجنة إذاً؟، والجواب: إنّ ما يُستفاد من الآيات والروايات أنّ الخلود في النار إنما هو للمعانِد ولا دليل على أنه لا يُمتَحَن القاصر من البشر في الآخرة ليدخل الجنة، بل دلّ الدليل على ذلك، كما هو مذكور في علم الكلام، ومن المعلوم عدم كون أكثر الناس مقصّرين معاندين، إذاً فليس بالبعيد دخول كثرة هائلة من البشر الجنة للإيمان وحُسن العمل في الدنيا، أو حُسن الإمتحان في الآخرة.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
160

وإذ تقدّم الكلام حول الجزاء يقرر السياق القاعدة العامة له وأنه ((مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ)) التاء أما مُبالَغة نحو تاء علاقة، وأما تأنيث، أي طاعة حسنة ((فَلَهُ)) من الثواب ((عَشْرُ أَمْثَالِهَا)) على الأقل وإلا فقد يبلغ الثواب إلى (سبع سنابل في كلّ سُنبلة مئة حبة والله يُضاعف لمن يشاء) و((مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ)) في التاء القولان، وإذا كانت للتأنيث فهي صفة خصلة ((فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا)) سيئة واحدة وإن كانت عظيمة جداً، فلا يُقال: ما فائدة الوحدة فيما لو كانت أعظم من المعصية ككذبة واحدة جزائها سنة في النار -مثلاً-؟، فمثلاً جزاء من يسبّ المَلِك بلفظة مائة سوط وهو جزاء واحد وإن كان عظيماً في نفسه ((وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)) في مقدار ما استحقّوا من السيّئات بل جزاءاً وفاقاً.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
161

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء الكفار ((إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي))، أي أرشدني ((إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)) والمراد -الصراط الموصل للإنسان إلى الحقائق والسعادة في الدنيا والآخرة- بالنسبة إلى كل شيء من الأمور ((دِينًا)) منصوب على تقدير: هداني، أي هداني ديناً، أو على الحال، اي إنّ الصراط في حال كونه ديناً ((قِيَمًا))، أي مستقيماً، وهو مصدر، كالصِغَر والكِبَر ((مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ)) بدل من (ديناً) والملّة هي الشريعة مأخوذة من الإملاء لأنّ الشرع يمليه الرسول على أمته، وإنما نَسَبَ الدين إلى إبراهيم (عليه السلام) لاتّفاق جميع الأديان على جلالته (عليه السلام) وصحّة دينه، قد كانت الأديان كلها ديناً واحداً فلا مانع أن يُنسب اللاحق إلى السابق ((حَنِيفًا))، أي في حال كون تلك الملّة مائلة عن الباطل إلى الحق، من حنيف بمعنى مالَ ((وَمَا كَانَ)) إبراهيم (عليه السلام) ((مِنَ الْمُشْرِكِينَ)) فلم يكُ مُشرِكاً كمشركي مكة، ولا يهودياً ولا نصرانياً، فإنّ كلتيهما مُشرِكتان.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
162

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء ((إِنَّ صَلاَتِي)) وهي الصلوات التي يأتيها الإنسان واجبة أو مندوبة ((وَنُسُكِي)) النُسُك: العبادة، يُقال: رجل ناسك أي متعبّد، ويُقال للأضحية النسكية للتقرّب بها إلى الله، فهي عبادة ((وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي))، أي حياتي وموتي ((لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فإنّ عبادتي له وحده بلا شريك، وأموالي مُلكه وبقدرته لا بشراكة أحد معه.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
163

((لاَ شَرِيكَ لَهُ)) لا أشرك أحداً به في العبادة ولا أزعم أنّ له شريكاً في حياتي وموتي ((وَبِذَلِكَ))، أي التوحيد ((أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) من هذه الأمة، أو المراد رُتبة إسلامي أول الرُتب.
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
164

((قُلْ)) يارسول الله لهؤلاء ((أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي))، أي أطلب ((رَبًّا)) وآلهاً ((وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ)) الإستفهام على الإنكار، اي كيف أتّخذ غير الله إلهاً -بالإستقلال أو بالشراكة- والحال أنه تعالى ربّ كل شيء لا ربّ سواه ولا إله إلاّه؟ ((وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا)) فإذا إكتسبت المعصية بالشِرك لحقني جزائي السيء ((وَلاَ تَزِرُ))، أي لا تحمل من وِزر بمعنى حمل الإثم ((وَازِرَةٌ))، أي نفس حاملة ((وِزْرَ))، أي معصية نفس ((أُخْرَى)) بل عصيان كل أحد على نفسه وهو يحمل تبعته، قيل: إنّ الكفار قالوا للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إتّبعنا وعلينا وِزرَك إن كان خطاءاً فأنزل الله هذه الآية ((ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ))، أي إلى حسابه مصيركم أيها المشركون أو أيها البشر ((فَيُنَبِّئُكُم))، اي يخبركم ((بِمَا))، أي بالشيء الذي ((كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) ليجازي كل إنسان وما عمله من إحسان أو إساءة.
momenattea
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان
سورة الأنعام
165

((وَهُوَ)) الله وحده ((الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ)) فإنكم تخلفون أهل العصر السابق في إرث الأرض وما عليها، كما إنّ من بعدكم يخلفكم ويرثكم في أرضكم وأموالكم ((وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)) ذكاءاً وعلماً ومالاً ومنصباً ومن سائر الجهات، فإنّ الأمور التكوينية والتقديرية كلها بيده لا شريك له ((لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ))، أي إستخلفكم وأعطاكم متفاضلاً ليختبركم ويُظهِر سرائركم وهل أنكم تطيعون أو تعصون ((إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ)) فلا يظنّ الكافر والعاصي أنّ العقاب بعيد فإنّ أمد الدنيا قصير مهما طال، أو المراد سرعة العقاب في الدنيا قبل الآخرة، إذ المعاصي توجب آثار وخيمة فوراً في الدنيا ((وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ)) لمن تاب وآمن ((رَّحِيمٌ)) يرحم العباد ويتفضّل عليهم من واسع فضله.
momenattea
 صدق الله العظيم
Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven Like a Star @ heaven 
27.07.2013      17:38:15
power_settings_newقم بتسجيل الدخول للرد
privacy_tip صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى