تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 1 |
ولما كان ختام السورة السابقة أنّ (لله مُلك السموات والأرض) إبتدئت هذه السورة بمثل ذلك الختام ((الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ)) واللام في الحمد للجنس، أي إنّ جنس الحمد لله إذ جميع المحامد راجعة إليه، والسماوات غالباً تأتي بصيغة الجمع بخلاف الأرض التي تأتي مفردة إشعاراً بأكثرية السماوات على الأرض، وإلا فالأرضون أيضاً سبعة كما قال سبحانه (ومن الأرض مثلهنّ)((وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ))، أي كونهما والظلمة إن كانت عدم مُلكه فمكون الملكة مكوّن العدم لأنّ إعدام الملكات لها حظ من الوجود كما قالوا وقد أتى بالظلمات جمعاً بخلاف النور للتناسب مع الجملة السابقة (السماوات والأرض)، ولعلّ سر الإتيان بصيغة الجمع إنقسام الظلمات حوالي النور فإنّ النور يشقّ طريق الظلمة فتتكوّن بسببه قطعاً، أو باعتبار الكيفية فإنّ الظلمة كلما قربت إلى النور كانت أرق، ثم أظهر سبحانه التعجّب من الذين يتّخذون من دون الله أنداداً كان كل شيء لله سبحانه ((ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ)) بعد كل هذه الآيات والدلائل((بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ))، أي يسوّونه بغيره ويجعلونه عدلاً وشريكاً ومثيلاً لأشياء أُخر مما لا أثر لها ولم تخلق شيئاً. | ||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 2 |
وحيث أنّ الجو العام في هذه السورة حول العقيدة مبدءاً ومعاداً، والأمور الكونية التي خلقها سبحانه تنتقل الآيات من عقيدة إلى عقيدة، ومن خلق إلى خلق ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ)) أما باعتبار أبينا آدم (عليه السلام) وأما باعتبار خلق كل فرد من التراب والماء فإنّ الإنسان من النطفة وهي من النبات والحيوان وهما من الأرض والماء ((ثُمَّ قَضَى))، أي قدّر وكتب ((أَجَلاً))، اي مدة للإنسان عامة حتى تنقضي أو لكل فرد حيث إنّ لكل فرد مدة لا يتجاوزها ((وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ)) أما تفصيلاً لـ (أجل)، أي إنّ الله سبحانه هو مصدر الأجل المسمّى الذي سُمّي لكل شخص فليس بيده غيره الآجال، واما المراد أنّ البعث الذي هو أجل ومدة لبقاء الإنسان في الدنيا حياً وميتاً عنده فبيده قيام الساعة ((ثُمَّ أَنتُمْ)) أيها البشر ((تَمْتَرُونَ))، أي تشكّون في الله سبحانه، إنه بيده الخلق والموت والبعث لا بيد غيره فكيف تشكّون فيه وتتّخذون غيره شريكاً له. | ||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 3 |
((وَهُوَ اللّهُ)) لا إله غيره ((فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ))، أي إنّ الخالق والمتصرّف في هذا الكون ليس إلا الله خلافاً لمن كان يجعل للسماء إلهاً خاصاً وللأرض إلهاً غيره، ومعنى (في) الظرفية المجازية، وإلا فليس لله سبحانه مكان، إذ المكان يوجب التحديد، والتحديد يوجب التجزئة، والتجزئة من صفات المصنوع لا الصانع ((يَعْلَمُ سِرَّكُمْ)) الخفي المكتوم أعم مما في الصدور، أو من الأسرار ((وَجَهرَكُمْ)) مقابل ذلك بالمعنيين ((وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ))، أي ما تعملون من الأعمال فإنّ العمل من كسب الإنسان، وفي هذه الآيات ردّ على الدهرية القائلين بقِدَم السماوات والأرض، والثنوية القائلين بإلهين نور وظلمة، والمشركين الذين يجعلون له سبحانه شريكاً، والجُهّال من الفلاسفة الذين يقولون بعدم عموم علمه أو قدرته، ومن أشبههم من العقائد الزائفة حول إله الكون. | ||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 4 |
ثم أخبَرَ سبحانه عن الكفار الذين تقدّم ذِكرهم في أول السورة، قال ((وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ))، أي معجزة ودليل وبرهان وحُجّة ((مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ))الدالة على وجوده وصدق رسالتك يارسول الله ((إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ)) لا يقبلونها ولا ينظرون إليها نظر مُنصِف معتبِر. | ||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 5 |
((فَقَدْ كَذَّبُواْ))، أي الكفار ((بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ)) من القرآن والرسول وسائر الآيات ((فَسَوْفَ)) في القيامة، أو في الدنيا حين ظهور الرسول ووضوح صدقه بالسيطرة والغَلَبة -كما أخبر- ((يَأْتِيهِمْ أَنبَاء))، أي أخبار ((مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ)) من الحق، وفي الآية تهديد كما تقول للمجرم: سوف تعلم إجرامك، تريد أنك تلاقي جزاه، إن كان المراد بـ (سوف) القيامة. | ||
تفسير تقريب القرآن إلى الأذهان | سورة الأنعام | 6 |
ثم حذّرهم سبحانه أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة حيث كذّبوا وعصوا وعتوا عن أمر ربهم ((أَلَمْ يَرَوْاْ)) إستفهام تذكيري توبيخي، أي ألَم يعلموا -فإنّ الرؤية تُستعمل بمعنى العلم- ((كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ))، أي من الأمم، والقرن أهل كل عصر، وسمّي بذلك لأنّ بعضهم يقترن ببعض، ولذا إختُلف في المدة المراد به لاختلاف الإعتبار ((مَّكَّنَّاهُمْ))، أي تلك الأمم ((فِي الأَرْضِ)) بأن جعلناهم ملوكاً وقادة وساسة ذا عَدد وعُدد وإمكانيات ((مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ)) حيث كانوا هم أكثر تمكّناً منكم، والظاهر أنّ الخطاب خاص بالكفار في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث كان السابقون أكثر تمكّناً منهم، لا يُقال أنّ من المحتمل كون بعض الأمم السالفة أكثر تمكّناً من جميع من يأتي إلى يوم القيامة حتى يكون الخطاب عاماً، لأنّ الجواب ظاهر، إذ قوله (ألَم يروا) ينافي ذلك فإنّ الناس لم يعلموا أخبار هكذا أمة -كما تقولون- بل ما رواه إنما هو أخبار الأمم التي كانت أقوى من الكفار في زمانه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ((وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا))هو من درّ إذا هطل، ومدرار صيغة مبالغة، أي كثرة الهطول حتى عمّهم الخير والبَرَكة والثروة، والمراد بالسماء المطر بعلاقة الحال والمحل، كما قال الشاعر: وإذا نَزَلَ السماء بأرضِ قومٍ رعيناه وإن كانوا غِضابا ((وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ))، أي مياههما بعلاقة الحال والمحال ((تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ))، أي تحت قصورهم وأشجارهم، أو باعتبار أنّ الماء أسفل من سطح الأرض التي يمشون عليها، وكل ذلك لم يفدهم في بقاءهم وحُسن ذِكرهم ((فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ)) والمراد هلاكهم بذهاب أثَرَهم وانقطاع نسلهم وعَقِبهم وفناء حضارتهم بسبب عصيانهم وكفرهم مقابل الأبياء والصالحين الذين بقوا إلى يوم الناس هذا، وإنّ صلاحهم وحُسن أعمالهم سبب بقاء آثارهم وبقاء مناهجهم ((وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ))، أي خلفناهم من بعدهم أمة أخرى وجماعة آخرين. |
momenatteaالسبت 27 يوليو 2013, 5:22 pm